اللغةُ العربيةُ واللكمَاتُ التَّاريخيّة

الناقد/ عبد الجواد خفاجي - مصر


لاحظت أن الجميع يهملون علامات الترقيم فكثيرون يقصدونني لمراجعة بعض نتاجهم الأدبي والفكري، وأنا أعيده إليهم بعد دقيقتين طالبا إعادة النظر بخصوص علامات الترقيم، وخاصة الفاصلة المنقوطة (؛) التي اندثرت.. بعضهم يفهم الأمر على أنه تلكؤ مني، والحقيقة غير ذلك، فعلامات الترقيم مثل إشارات المرور على الطريق، مهمة للسائقين لمعرفة التفاصيل الخاصة بالطريق، وطريقة السير. ولها قيمة كبيرة في إنتاج الدلالة. وكل نَصٍّ ـ وبخاصة الأدبي ـ يفقد الكثير من الدقة، والدلالة، إذا ما استثنينا علامات الترقيم. وما عرفت كتابة عربية تهمل علامات الترقيم غير نوعين، هما: كتابةُ المجانين، وكتابة تيار الوعي كنمط أدبيّ سرديّ.
والأمر قد يكون مفضيا إلى الحديث عن اللكمات التي تتعرض لها اللغة العربية غبر تاريخها على أيادي الأقارب والأباعد، ما بين المتجاهل والجاهل، أو ما بين الالتزام المتقعر المنفر والتسيب المعيب، أو ما بين المستعمر الحاقد وابن البلد الجاهل، بداية من انفراط عقد العباسين وحتى اليوم، وثمة أسباب كثيرة لذلك لا نود الخوض فيها، ولكن جميعها تعود إلى انسحاب الحضارة العربية بوصفها حضارة منسحبة في الحاضر.
البعض ذكر شماعة معلم اللغة العربية وتقاعسه عن مهمة تعليم التلاميذ استخدام علامات الترقيم، وأنا بدوري أقول: لا .. معلم اللغة العربية ليس مسؤولا عن لغة العرب، كما أن معلم اللغة الإنجليزية ليس مسئولا عن اللغة الإنجليزية .. معلم اللغة العربية مسؤول عن أداء مهام وظيفية، مؤطرة بمنهج تحدده وزارة التربية والتعليم وهو منهج لا يحتوي على كل اللغة العربية، وإنما يحتوى على مفاتيح أساسية للدخول إلى عالم اللغة وآدابها، ليبقى العلم بعد ذلك في بطون الكتب، لمن يريد، خاصة إذا أراد أن يصبح أديبا.
العيب في النظام التعليميّ وسياسية الدولة.. علامات الترقيم موجودة في المنهج الدراسي في المرحلتين الإعدادية والثانوية. والمعلم قام بشرحها شرحا وافيا ولا يستطيع غير ذلك؛ ما دامت ضمن المنهج، ولكن الذي يحدث هو عدم متابعة توظيف القواعد النحويّة والإملائية في كراسات الطلاب، ووضع ملحوظات بالقلم الأحمر. وهذا مرده إلى أسباب عدة، مثل: ارتفاع كثافة عدد الطلاب في حجرة الدراسة، حتى وصل إلى خمسة وخمسين تلميذا في الحجرة الواحدة، في حين أن وقت الحصة هبط في بعض المدارس التي تعمل بنظام الفترتين إلى نصف ساعة. ومنها: زيادة النِّصاب القانونيّ لحصص المعلم الذي أضحى محملا فوق طاقته بعمل مرهق.. ومن ضمن الأسباب ـ أيضاَ ـ عدم توفر حجرات للمعلمين يمارسون فيها تصويب الكراسات، وتحضير الدروس.
وثمة إصرار مؤسسي في المنظومة التعليمية في مصر على نفي اللغة العربية وتشريدها عن بيئتها، عندما لا تطالب سائر المعلمين بإتقان لغتهم، فما يفعله معلم اللغة العربية يتم هدمه في اليوم نفسه، عندما يدخل مدرس الجغرافيا ـ مثلاً ـ بعده إلى المجموعة ذاتها من التلاميذ ليمارس الكتابة الخاطئة نحويا وإملائيا على سبورة الفصل، ثم يأتي بعده مدرس العلوم ـ مثلا ـ ليُجهِزَ على البقية الباقية من صحة اللغة، على السبورة ذاتها وأمام أعين التلاميذ أنفسهم.
الخطأ المؤسسي الآخر هو جعل اللغة العربية أرخص مادة من حيث الدرجات، الأمر الذي يحفز التلميذ على هجرها، فما حاجته إلى قراءة "وا إسلاماه" لأحمد على باكثير، مثلا، مقابل أربع درجات، في حين أن سؤالا اعتياديا في الإنجليزية مقدَّر له عشر درجات؟!
إنَّ تعامل المؤسسات التعليمية مع اللغة العربية تعاملٌ غير حكيم، إن لم يكن تنفيذا لشروط أمريكية تتعلَّق بالمنحة التعليمية. وهو تعامل يهدف إلى تحقير اللغة العربية ومعلميها. وهو تعامل ليس جديدا، بل هو يشفُّ عن نفس موقف المستعمر الإنجليزي من اللغة العربية.
وما تحتفظ به الذاكرة العربية عن المستعمر الإنجليزي أنه كان يمنح معلم اللغة الإنجليزية ضعف راتب معلم اللغة العربية الذي كان يرتدي الجبة والقفطان والعمامة بوصفه أزهريا.
أما النظام الملكي فكان يمنح كل حامل شهادة جامعية لقب "بك" ماعدا مدرس اللغة العربية. وجاء الاستعمار العثمانيّ وما تلاه من حكم محمد على وأولاده، كلاهما سعيا إلى فرض لغة رسميّة تخصه على مصر، وغيرها من الدول العربية.
وقد ساهم استبعاد اللغة العربية إلى فرنجة الثقافة، وفرنجة العلم نفسه، خاصة مع بدأ تنفيذ برامج البعثات العلمية إلى أوروبا، حيث كان على المتقدم للبعثة أن يجيد لغة الدولة الأوروبية التي سيسافر إليها.
في الوقت نفسه تعرض معلم اللغة العربية لهجوم ساخر من الأفلام المصرية وما زال، ويكفي هنا أن نسوق مثالا ففي أحد الأفلام ، وهو فيلم (الأيدي الناعمة) يعرف صلاح ذو الفقار نفسه للبطل أحمد مظهر نفسه بأنه يحمل درجة الدكتوراه في "حتى" فينخرط المشاهدون في موجة هيستيرية من الضحك، ولا أنهاك من فيلم "غزل البنات" وكّم السخرية التي يحتويها من الأستاذ "حمام".
والحقيقة أن كل الذين يضحكون من مشاهد الفيلم لا يدرون أنهم يضحكون على أنفسهم، وهم الجهلاء بلغتهم، وأنّ إشكالية "حتى" إشكالية نحوية حقيقية انشغلت بها مدرستا "البصرة والكوفة"، دون أن تصلا إلى قول فصل فيها، حتى أن سيبويه قال على فراش مرضه الأخير: "أموت وفي نفسي شيء من حتى".

تعليق عبر الفيس بوك