تحيّة التّراث إلى جربة التّواصل

أ.د/ محمد بن قاسم ناصر بوحجام - الجزائر

 

لِقاؤُنا  يزْدَهِي  في   نَدْوَةِ   السِّيَرِ        
                                       في  كلِّ   عَامٍ   نَفِي   بالوَعْدِ   والبِدَرِ
نَأْتِي جَـميعًا إِلَى الـخَضْراء في أملٍ           
                                       يَـحْدُو بِنا أَنْ    نَنال   أَحْسَنَ   الوَطَـرِ
بَـحْثًا، حِوارًا، تَشاوُرًا،  دِراسَةَ مَا         
                                       يكونُ مِنْ  كُتُبٍ،  تَـحْوِي  سَنَا  الدُّرَرِ
اليومً جِئنَا    لِتُونسٍ   لِنَبْحَثَ  في         
                                       سِفْرِ الـجواباتِ مـضْمومًا   إلى  السِّيَرِ
فَـجِربَةٌ وتَواصُلٌ،  تَـمدُّ  إِلَى  التْـ        
                                     تُراثِ (1) جُـهْدًا  كبيرًا  في اقتفا   الأَثَرِ  
وخدمةِ العِلْمِ  في  حَزْمٍ  وفي دَأَبٍ        
                                     والكشفِ عنْ جـــانبٍ جـــمٍّ  مِنَ  الفِكَرِ
يا رَبَّنَا عَوْنَكَ نرجُو، وحفظَكَ  نَدْ        
                                     عُـــو، مَا لَنَا  غَيْرُكَ  يَـحْمِي  منَ الكـدَرِ  

حضراة الدّكتور فرحات بن علي الجعبيري المحترم، رئيس جمعية جربة التّواصل.الدّكتورة الفاضلة سناء بنت مهنّي الباروني رئيسة اللّجنة العلميّة للنّدوة. مشائخنا، أساتذنا، علماءنا، إخواننا وأخواتنا، أبناءنا وبناتنا.. السّلام عليكم ورحمة الله.
نجتمع في هذا المنتدى العلمي الفكري الثّقافي كلّ سنة لنتحاور ونتناقش ونتداول وجهات النّظر في مسائل علميّة وقضايا فكريّة، واهتمامات ثقافيّة..تتصدّرها شؤون حضاريّة وأمور تاريخيّة.؛ بهدف فتح سجلاّت التّاريخ، بما تحويه من معارف وتراث.. يُحتاج إلى تقديمه للأجيال المتعاقبة، بطرق صحيحة وأساليب متناسبة مع المستجدّات والأهداف المنشودة، وبرؤى ثاقبة ودراسات منهجيّة، وبحوث موضوعية.. عسانا نسهم في تقديم ما ينفع في خدمة التّراث، وما يفيد في بناء الشّخصيّة السّوية، ومواصلة الجهد في تطوير مجتمعاتنا؛ لتبقى في ميدان المنافسة الفكريّة صامدة، وفي حلبة إثبات الذّات حاضرة، وإلى منصّة التّتويج  صاعدة..
هذه النّدوة اختير لها كتاب مهمّ: " السّير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان" تحقيق وشرح الدّكتورة سيّد ة إسماعيل كاشف.. هذا الكتاب الذي ضمّ أربعًا وثلاثين سيرة، كتبها أئمّة وعلماء عمانيّون.. يحمل قيمة تاريحيّة وفكريّة كبيرة:
أوّلا: لأنّ محتوياته تناولت الفترة المبكّرة لتاريخ الإباضية وعمان وفكرِه في مختلف المجالات، في فترة ما بين القرنين الأوّل والسّادس الهجريين.. هي فترة التّأسيس والتّأصيل للفكر الإباضي: مشرقًا ومغربًا..فترة وجد فيها أئمّة وعلماء كبار..كان لهم دورهم المتميّز والرّيادي في مسار هذا الفكر، ولهم تأثيرهم فيما حدث في حياتهم وما بعدها..فما دوّنوه أعمالٌ توزّعت بين تسجيل سير، مصدرها أفعال وأقوال وقصدها تقرير مبادئ، وضبط قواعد، وعرض قضايا، وبيان أحكام، وشرح مسائل، وتصحيح مفهومات، وتسجيل أحداث ووقائع وواقعات..
ثانيًا: عرضت ردودًا وجوابات لأئمّة وعلماء " على الاستفسارات التي كان يرسلها المسلمون إلى الأئمّة والعلماء الإباضية والعمانيّين، عن حقيقة المذهب الإباضي، وعن العقيدة الإسلاميّة، وعن التّوحيد، وعن المعاملات، وعن الجهاد، إلى غير ذلك من مسائل الدّين وأمور السّياسة والحرب، ومشكلات الاقتصاد وشؤون السّياسة الخارجيّة، والمعاملات المختلفة في الحياة..." (2)
هذه السّير التي اشتملت على معالم وقواعد ومرتكزات ومقوّمات..يتميّز بها  الفكر الإباضي في مختلف مجالاته، أو هي تعرّف بحقيقة المذهب الإباضي..حتّى ما استجدّ بعد الفترة التي غطّتها هذه السّير والجوابات..كان يُستمدّ منها كثير من معالم التّفكير والتّخطيط والتّنظيم..
أهميّة هذه السّير والجوابات تكمن في بعض ما نذكره في الآتي:
1-    نشرت عملا مهمًّا، كان مركونًا في رفوفٍ وزوايا، يصعب الوصول إليها..بذلك قدّمت للباحثين والدّارسين – بخاصّة – خدمة كبيرة..
2-    كشفت عن فكرٍ أصيل، وأبرزت معالمه وركائزه ومجالاته.. ما يعين على التّعرّف عليه، والإفادة منه؛ تقديرًا له، وتصحيحًا لما قيل عنه ونقل على غير حقيقته.. قالت الباحثة: " واهتمّ أصحابُ (السّير والجوابات) بشرح المذهب الإباضي، وهم يؤكّدون أنّ هذا المذهب هو الإسلام القائم على القرآن الكريم والسّنّة النّبوية الشّريفة، وغالبًا ما نقرأ في السّير عبارة:(ونحن نتّبع ولا نبتدع). ويتّضح من السّير والجوابات أنّ العمانيّين عملوا على إماتة كلّ بدعة خارجة على الإسلام.
والحقّ إنّ تاريخ عمان يبيّن أنّ الإباضيّة في عمان وقفوا ضدّ الآراء الدّخيلة على الإسلام، وضدّ البدع، وضدّ التّطرّف والغلوّ...كما وقفوا ضدّ غلاة الخوارج، وضدّ أصحاب الفرق والمذاهب الغالية..ولم يكن وقوفهم ضدّ هذه البدع والنّحل والفرق عن جهل أو تعصّبٍ، وإنّما كان عن تديّنٍ ووعي ودراسة وعلم.."( 3)
ما قامت به الباحثة مشكورةً هو جهد كبير وعمل مهمّ ومفيد في السّياق الذي أشرنا إليه؛ رغم ما قُدِّم عن عملها من ملاحظات ونقد وانتقاد.. لأنّها اجتهدت في توفير معلومات ومعارف للمعنيّين بالفكر الإباضي والمهتمّين به، كانت محجوبة عنهم أو مغيّبة.. كما أنّها سجّلت مجموعة من الإشكالات والعائقات في نشر هذه السّير والجوابات.. يتحمّل الباحثون مسؤولية النّظر فيها، ودراستها دراسة علميّة نقدية.. ما يمنح الإضافة في درب البحث العلمي، ويقدّم الجديد في قراءة هذه السّير والجوابات، ويصوّب ما فيها من أخطاء، ويكمل ما نقص منها،.. هذه النّدوة التي نقيمها حاليًا تدخل في هذا السّياق وتسلك هذا النّهج.. وهو ما نرجوه من الباحثين والمشاركين فيها بأيّ شكل من أشكال المشاركة..
3-    هذه الشّهادة تقدّم شاهدًا على أهميّة هذه السّير والجوابات، في مضامينها، التي هي عميقة ومتجذّرة في الأصول الإسلاميّة.. كما انّها مرتبطة ومشدودة إلى حقيقة الفكر الإباضي؛ بما اشتملت عليه من حقائق ومعلومات دقيقة..ملاحظة أخرى جديرة بالاعتبار، تتعلّق بالنّظر في تاريخ الإباضية بعامّة، والعمانيّين بخاصّة، نعرضها في الفقرة الآتية.. تقول سيّدة كاشف: " وإن كان تاريخ عمان في العصر الإسلامي لم يحظَ بعناية الكتّاب والمؤرّخين المعروفين، مثل اليعقوبي والطّبري والمسعودي وابن الأثير  وابن خلدون وغيرهم، فهذا أمر طبيعي لأنّ مثل هؤلاء المؤرّخين – الذين وصلت إلينا مصنّفاتهم منذ القرن الثّالث الهجري – أرّخوا للدّول الحاكمة وللبلاد الخاضعة لها، أو أنّهم أرّخوا لتاريخهم القومي، مثل مؤرّخي مصر الإسلاميّة والشّام والمغرب.. ومن هنا كانت الأهميّة البالغة للمصادر العمانيّة الإسلاميّة التي تكتب عن تاريخها القومي بيد أبنائها وعلمائها.. والمعروف أنّ كثيرًا من المصادر العمانيّة – ومن بينها كتب السّير – كانت معاصرة للأحداث التي ترويها، علميّة كانت أو دينيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعية أو أدبيّة أو فنّيّة أو حربيّة، فهي سجلٌّ لتاريخ عمان في العصور الإسلاميّة المختلفة.." ( 4)
هذه الملاحظة مهمّة، إذ فيها توضيح طبيعة تدوين التّاريخ الإسلامي، وبيان حقيقة الحيّز الذي أعطي للتّاريخ العماني في التّدوين.. وفيها تحميل مسؤولية تسجيل التّاريخ العماني وكتابته ونشره للعمانيّين في الدّرجة الأولى..تضيف الباحثة: "ونحن لا نبالغ إذ نشير إلى الأهميّة القصوى لنشر المخطوطات العمانيّة، ومن بينها السّير العمانية. فالعمانيّون أقدر من غيرهم على تسجيل تاريخهم ومواقفهم البطوليّة وجهادهم للحفاظ على استقلال عمان، وعلى تسجيل وقوفهم ضدّ تيّارات التّطرّف والبدع الغريبة على الإسلام، وعلى مساندتهم للدّول التي تقوم على أساس إسلامي، خارج قطرهم، والعمل على نشر الدّين الحنيف، مهما نأت البلاد، وقست الأجواء..." (5 )
بهذه الشّهادة وهذا النّداء تَتَحدّدُ قيمة السّير في تسجيل تاريخ عمان وحضارتها وفكرها، ما يعطيها الصّدارة في الاهتمام للتّعرّف على تاريخ عمان في القرون الأولى بخاصّة، التي أهملت في التّدوين، أو غيّبت أحداثها ومجرياتها وسيرورتها بفعل فاعل وبشتّي العوامل... هذا ما يبرّر اختيار جمعيّة جربة التّواصل السّير موضوعًا لندوتها السّنويّة.

4-    تميّزت هذه السّير والجوابات في عمقها وأبعادها بالمميّزات الآتية:
(أ‌)     إسلاميّة الصّبغة.. من مظاهر ذلك أنّ أصحابها الإباضيّين كانوا يركّزون فيها على وَحدة الدّين، مبتعدين عن وحدة العصبيّة القبليّة؛ " ولهذا كانت الصّلة وثيقة بين إباضية عمان وبين إباضية جميع العالم الإسلامي..." ( 6)
(ب‌)    الحثّ على تحمّل واجب الدّعوة إلى الإسلام خارج عمان.. من باب الفرض المحتوم على كلّ فرد؟ في هذا المجال فإنّهم ربطوا بين (الدّعوة والجهاد). ( 7)
(ت‌)    تناول موضوع الإمامة والخلافة بشكل دقيق ومفصّل ومؤصّل، وبنظرات واقعيّة شاملة لحياة المسلم وفي علاقة الحاكم بالمحكوم في جميع أحوالها وأوضاعها وشروطها ..تقول سيّدة كاشف: " والواقع أنّ كُتَّابَ(السّير والجوابات) عرضوا لموضوع الإمامة عرضًا دقيقًا وافيًا شاملاً، من جميع نواحيه. ووضحَ من السّير اهتمام الإباضية بالإمامة، فقد قالوا: (إنّ الإمامة من الدّين) و(لا أمان إلاّ للإمام، ولا أمان دون الإمام)،كما ذهبوا إلى (أنّ الأئمّة أمناء الله وخلفاؤه في أرضه)" ( 8)
تقول سيّدة كاشف: " والحقِّ إنّ (كتاب السّير والجوابات)  - إلى جانب كافّة التّراث العماني – لهو أصدق من يقدّم للباحثين والمؤرّخين المحدثين تاريخ عمان، وأصدق من ينقض الزّيف، ويكمل النّقص، الذي ارتبط بالتّاريخ العماني، إمّا للجهل بتاريخه، أو لعدم الاكتراث به، أو للتّعصّب الأعمى ضدّه." ( 9)     
إنّ كتاب "السّير والجوابات" الذي هو محور ندوتنا المباركة يحمل قيمة معرفيّة كبيرة، لأنّه يحتوي على معلومات أساسيّة للتّعريف بالفكر الإباضي في: العقيدة والفقه والأخلاق والتّاريخ والحضارة والاجتماع والسّياسة وغيرها، وقد سجّلت هذه المعلومات في القرون الهجريّة الأولى، أي في المراحل الأولى للتّأسيس للفكر الإباضي.. كما اتّخذ تسجيل هذه السّير أسلوبين أو طريقين: سبيل التّدوين والتّقرير وسبيل الإجابة على أسئلة أو إشكالات أو معالجة ظواهر أو تصحيح أخطاء أو التّنبيه إلى أمور..الهدف من كلّ ذلك هو التّأسيس والتّأصيل والبناء والإعداد...
لذا فإنّنا نرجو من باحثينا والمشاركين في هذه النّدوة الكبيرة أن يجتهدوا ويحرصوا على سبر أغوار هذه السّير والجوابات، وأن يعالجوها؛ دراسة وتحليلا ونقدًا بمنهجيّة علميّة موضوعيّة، تخدم العلم والمعرفة، وتتناغم مع الأهداف المرسومة لها، حين دوّنها أصحابها، وتستجيب لتطلّعات الأجيال التي تنتظر منّا جميعًا إفادتها بما يعرّفها بأصولها، ويربطها بمبادئها، ويمنح لها فرص استثمارها في حياتها، ويعينها على الإضافة إليها،.. هذه هي الأهداف المنشودة من الملتقيات العلميّة واللّقاءات الفكرية والتّجمّعات الثّقافيّة.
نحن من جهتنا أعضاء جمعيّة التّراث نطمح أن تكون لنا إسهامات وأعمال موجّهة لخدمة التّراث بكلّ جوانبه ومكوّناته؛ لتحقيق الأهداف التي أشرنا إليها آنفًا، بالتّنسيق مع إخواننا في جمعيّة جربة التّواصل، لتتواصل الجهود مع بقيّة المؤسّسات والهيئات والمراكز والجمعيّات مشرقًا ومغربًا.. وذلك بتكثيف اللّقاءات، وإنشاء مشروعات بحثيّة، وعقد ندوات مشتركة، والاجتهاد في تقويم الخطوات والمجهودات، واتّباع أيّ وسيلة ممكنة للتّفاعل والتّعاون وتبادل الخبرات، والاهتمام بالشّباب؛ توعية وتعليمًا وتثقيفًا وأخذًا بأيديهم في ميادين البحث والدّراسة، وتوفير المصادر والمراجع، وإقامة دورات تكوينيّة في كسب المعرفة، وتوظيفها واستثمارها بما يتناسب مع التّطوّرات والمستجدّات..
وفي الختام باسمي الخاصّ وباسم أعضاء مكتب جمعيّة التّراث نحيّي جمعيّة جربة التّواصل، ونقدّم لها شكرنا الجزيل؛ ممثّلة في رئيسها الشّيخ الدّكتور فرحات بن عليّ الجعبيري، ورئيسة اللّجنة العلميّة الدّكتورة سناء بنت مهنّي الباروني، وكلّ أعضاء الجمعيّة ومن أسهم في إقامة هذه النّدوات القيّمة في موضوعها ومضمونها وفي سيرورتها المباركة النّاجحة والحمد لله. ما نرجوه أن نجد أصداء إيجابيّة لهذه النّدوات في حياتنا العمليّة وفي واقعها المعيش: دارسين أوّلا وموجّهين ومنظّمين ومشاركين وحاضرين، ومن تصل إليه أعمال هذه النّدوات..نتعلّم منها ونتكوّن، ونصوّب بها أخطاءنا، ونصحّح علاقتنا بتراثنا، ونستدرك عليه ما يجب استدراكه..
شكرًا لكلّ الحاضرين، وجزى الله الجميع على ما قدّموا.. نسأل الله المزيد في كلّ ما هو خير، والكفّ عن كلّ ما هو شرّ. إنّه الهادي الصّواب، والمرشد إلى السّداد والحمد لله ربّ العالمين..
المراجع:
1)    جمعيّة التّراث  لولاية غرداية،  الجزائر
2)    السّير والجوابات لعلماء وائمّة عمان، الجزء الأوّل، تحقيق وشرح الأستاذة الدّكتورة سيّدة إسماعيل كاشف، ط2، نشر وزارة التّراث القومي  والثّقافة، سلطنة عمان، 1410هـ/ 1979م، ص: 6، 7.
3)    المصدر السّابق، ص: 10، 11.
4)    المصدر السّابق، ص: 12.
5)    المصدر نفسه.
6)    المصدر السّابق، ص: 13.
7)    المصدر السّابق، ص: 14.  
8)    المصدر السّابق، ص: 16.
9)    السّير والجوابات، الجزء الأوّل، ص:16، 17.

تعليق عبر الفيس بوك