قدسية المكان ..هواجس الروح وجماليات العمارة

أ.د/علي ثويني – خبير معماري باليونسكو – السويد

 

 اقترن اختيار مواقع المدن بالطالع، والروحانيات وكان لدى السومريين وظيفة واختصاص لكل آلهة وكان ينظر له كمالك للأرض التي تؤجَّر منه (ديان)، ليسبغ رحمته على مستأجريه. وكانوا يشعرون أن الصلاة لتلك الآلهة ليست ذي جدوى خارج النطاق المعين لسطوته. ويفسر الأمر كعاطفة تحاكي علاقات الناس مع بعضهم، تتعداها إلى علاقات الإنسان بالطبيعة، وبالمكان. وثمة من يصنف ذلك كسجية في العاطفة البشرية، ويلمسها (كاسيرر) في اللغة والأسطورة والفن والدين ضمن "الجهاز الرمزي" الإدراكي، الذي يشكل الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية للأشياء في الزمان والمكان، والنسيج المعقد للتجارب الروحية الإنسانية مع العالم المادي.

تستوحي الصروح البنائية الأولى كالزقورات والأهرامات كأنها منسوجة من وحي خيال الإنسان الجامح لسامق الجبال وهيبتها، الموحية القرب إلى السماء،  مصدر النور والماء وبيت النجوم والآلهة. وتذهب الانثروبولوجية الأمريكية (كارين ارمسترونغ) إلى القول بأن الناس في العالم القديم، كانوا يشعرون أنهم إذا لم تتوفر لهم إمكانية الحياة في ظل تلك الصلة مع القوة الإلهية، فسوف تصبح حياتهم غير محتملة، خالية من المعنى، وهو ما دفعهم إلى عدم الاستقرار إلاّ في الأمكنة التي أفصحت القداسة فيها عن ذاتها لهم، فأزالت الحاجز الذي يفصل بين الآلهة والبشر، فالصخرة السامقة، والوادي السحيق، الذي يتسم بجمال خاص يمكن أن يفصح عن وجود قداسة، لأن من العسير إدراجه في سياق الظواهر المحيطة به، فمظهره نفسه، كان يعبر لهم عن شيء آخر، وكانت أبصار الناس في المجتمعات القديمة ترى أن الجبال التي تسمو هاماتها على الأرض رموز للتعالي، فإذا تسنمها العابد، أحس أنه صعد وبذل جهدا إلى مستوى مختلف، يقع في منطقة وسطى بين الأرض والسماء. ويرى المؤرخ الألماني رودولف أوتو، أن هذه الأماكن المقدسة، يمكن أن تلقي في القلب الفزع والهلع، وتحمل قدرة جبارة على اجتذاب الناس، لا تقاوم، ولم يكن البشر يتصورون أن مجتمعاتهم قادرة على البقاء، دون الارتباط بهذه القوى الجبارة.

وفي فلسطين نجد أشهر جبالها (الكرمل)، (كرم- إيل) أو كرم الله، يرد مكرراً في التوراة وخاصة في قصة كهنة (بعل) وإيليا وفي نصوص تعود لفرعون مصر تُحتمس الثالث، و يدعى الجبل (روش قدوش) أي الرأس المقدس، وفي المصادر الكلاسيكية يوازى بالإله (زفس هليوبوليتانوس) إله بعلبك الشهير، وعلى قمته في العهد المسيحي – الإسلامي مزاران لـ(مار إلياس) و(النبي الخضر)، ولا تزال مزارا دينيا في جميع مناطق سوريا الجبلية، فعلى كل قمة أو مطل نجد ديرا أو ضريحا أو بقايا معبد قديم، ويعزى إلى سنكونياتن قوله أن جبال سوريا كانت (جبابرة مؤلهة)، (أبناء النار)، ويسميهم: (كاسيوس ويعني القاسي)، و(براثي ويعني الولادة)، و( لبنان ويعني الجبل الأبيض).

وأحيطت الأحجار التابعة لأمكنة بتقديس لا تفسير مادي لها. فقد وردت في الغرف القبرية قبل التاريخ أو بعده، وفي التاريخ الكنعاني كما في القبر ذو العمودين الحجريين المقدسين، المسمى (المصاباه mazzeboth) المحاكي لما أقامه النبي يعقوب فوق قبر زوجه راشيل (رحيل) في (بيت الله "أيل "Bethel) في القدس لتخليد  رؤيا شاهدها في منامه وردت في التوراة.

ومن الطريف أن المشروع الصهيوني في بداياته مكث حائرا وغامضا ومتخبطا، ولم يختر أرض فلسطين حصرا كدولة لليهود، واختيرت الأرجنتين أو أوغندا أو قبرص أو سيناء أو شرق العراق الجنوبي وحتى نيوزيلنده القصية، وأنهم نقلوا الحجارة من فلسطين إلى أوكلاند من كنيسهم أو برلمانهم، والذي أمسى بلدية المدينة ثم اليوم المتحف الوطني في عاصمة نيوزيلنده.

وتعامل البشر مع الحجر كروح وليس جماد، فقد وظف المصريون القدماء الحجر المقطوع من مقالعه في نفس الاتجاه الجغرافي بواجهات البناء. أي أن جبهة البناء الشمالية تبنى بحجر مقطوع من الجهة الشمالية للمقلع، لشعورهم أنها تعودت مثل أي روح على سياق معيشي وثابت في تلقيها الشمس والرياح من جهة معينة طوال وجودها. وقد انتقل هذا العرف الى العمارة الإسلامية في مصر، ونجد خير تجسيد له في مدرسة ومسجد السلطان حسن في القاهرة 1356م. ومكثت صروحة سليمة بعد سبعة قرون من إنشائها، خلافا لمسجد الرفاعي المقابل له والذي أنجز العام 1911م والذي سَقِمَ وهَرِم بعد قرن من بنائه بسبب عدم التزامه بتلك المعالجة البيئية.

واقتبس اسم (كاسيوس Kasios) آلهة الجبال اليوناني ضمن الكثير من سياقات منتج الشرق القديم الروحي والحضاري حينما أطلقوا اسم (بعل كاسيوس) في لبنان على (الجبل الأقرع) الذي يحيط به نهر العاصي وعُدَّ مسكنًا للعاصفة. وقد أشار لتلك الاقتباسات المتشعبة (مارتين برنال) عام 1989 في مؤلفه أثينا السوداء، ومقارنته مع (قاسي) آلهة الحجر والجبال عند الكنعانيين والعرب. ومنه جاء اسم (قاسيون) الجبل الحامي لدمشق، والذي يعني مع التنوين الأكدي (القاسي) الحامي لدمشق.

ونجد في أسفار التوراة قصة (نِحمان) الذي أبرأه النبيّ (اليشع/ البسع) من البرص بقوة الله (يهوة)، وبعدها توسل إلى النبي اليهودي أن يسمح له بأخذ جزء من تراب فلسطين معه إلى دمشق ليغطي به أرضية حجرة في منزله، لكي يتمكن من الصلاة وتقديم الشكر للمالك الإلهي لفلسطين.

ومن الغرائب أن الفرس عدوا أرض الفرات مقدسة دائما، وتجشموا عناء نقل  موتاهم لدفنهم في ثرى واديها اعتقدادا منهم بأنها اكتسبت القدسية بعدما رويت بدم سبط النبي الكريم، الإمام الحسين الشهيد (ع). لكن الدلائل التاريخية تشير إلى أنهم مارسوا الأمر عينه قبل الإسلام وكانت حجتهم حينئذ وجود عشتار، ثم مكان ولادة الداعية ماني البابلي (216-277م)، وكلها كانت سببا في احتلالهم لبابل عام 539ق.م. والأمر يدخل في سياق الفطرة التاريخية لشعوب رعوية صحراوية شغفت بالوادي الأخضر المتاخم لها ودغدغ شغاف قلوب سكانها وهفت إليه برغبة لاتدرك وشعورلايؤطر بالوعي، وقدسية تتحول من طور إلى طور دون إطار. وبذلك فإنها تتحول تراكميا كثابت ثقافي.

ونلمس البون  بين البيئتين الثقافيتين الرملية والطينية في مجال التأويل والتفضيل، حيث إن من أدرك فضائل غلة الأرض في ديمومة نوعه ورسم عافيته، قد يقدسها ويقيم لذلك الشعور شواخص معمارية، فالأضرحة والمزرارات ما هي إلا ممارسات وتمثيل فطري لذلك الشغف وتجسيد لعاطفة أصلها يقبع هناك في داخل النفس التي أوحت للعقل أن يؤولها، بينما أهل الرمل ازدروا المكان لشحة غلته وعدم جدواه، فكانت قبورهم دوارس، كي لاتكبلهم فيها وتكبح جذوة البحث عن الكلأ والماء وما يبقيهم، وربما هذا هو صلب الخلاف والاختلاف.

وربما يوصلنا الأمر لسر قدسية الحجر الأسود في الكعبة المشرفة بمكة المكرمة والصخرة في القدس، حينما أصبحا  مكانين مقدسين، وأقيمت عليهما أجمل العمائر. فحميت  صخرة مكة ببناء صخري مكعب،  وعلى صخرة القدس أشيد مبنى عام 71هـ\ 691م، مغطى بقبة هيكلها خشبي مغشاة بالمعدن، وتحتها بناء مثمن الشكل من الحجر في غاية من التجانس والانسجام والرمزية، حتى يصنفه عشاق الجمال بأنه من أجمل المعالم التي أبدعها الإنسان، أو أول نجاح للإسلام المعماري. وتذهب المؤرخة الأمريكية (أرمسترونغ) إلى أن الناس وضعوا ما يسمى بالجغرافية المقدسة وهي خريطة لا علاقة لها بالخريطة العلمية للعالم، لكنها ترسم صورة الحياة الباطنية، حتى يصبح ما على الأرض من مدن وغياض وجبال رموزاً للحياة الروحية. فقد قدست مواقع بحد ذاتها، وإن كل المعابد القديمة حل محلها وبموقعها معابد لديانات صاعدة جديدة، كما هو المسجد الأموي الذي كان كنيسة للنبي يحيى (القديس يوحنا المعمدان)، وقبلها كان معبدا يخص الكوكب عطارد (جوبيتر) عند الكنعانيين. وفي الموصل نجد المسجد النوري المعروف بمنارته (الحدباء) الذي فجع بتفجير (داعش)، وكان معبداً آشوريا لعشتار، ثمة كنيسة لشهداء المسيحية الأربعين، ثم بني عليه الجامع الأموي الأول قبل أن يهدم ويبنى مسجد سيف الدين غازي الأول، ثم بعده الجامع النوري الأتابكي.. وما فتئنا اليوم نكتشف الصلبان والنواويس المسيحية في النجف والكوفة، التي قدست فيما بعد بعقيدة أخرى، ونلمس الأمر في (براثا) بالكاظمية حيث كانت كنيسة ودير نبطي (آرامي) وربما سبقها أمر آخر، وأمست محلا يشاع أن الإمام علي بن أبي طالب (رض) مرَّ وصلى به.

ونجد الأمرحتى في الثقافات النائية كالسويدية  التي تداولت عرفا بنائيا استمر حتى ثلاثينيات القرن العشرين بأن الناس يختارون لمنشآتهم الدينية والدنيوية موقعا مباركا، وتفسرها علوم (الفنك شوي) الآسيوية اليوم، بأن تلك البقعة تحمل طاقة إيجابية، ويمكن الإنشاء عليها لما تسبغه من راحة وسكينة على ساكنيها، أو كما في أعرافنا بما يخص بركة (عتبة الدار). وبالنتيجة فالمقدس والمدنس بحسب المعتقدات يشكل عنصرًا في بنية الشعور، وليس مرحلة في تاريخ هذا الشعور، وعلى المستويات الأكثر قدماً من الثقافة، يظهر عيش الكائن البشريّ بحد ذاته عملاً روحانياً.

تعليق عبر الفيس بوك