الكاتبُ العاشِقُ والنَّصُّ المَعشوق

أ.د/ يوسف حطيني – أديب فلسطيني – جامعة الإمارات


ليس في خاطري اليوم أن أتحّدث بطريقة أكاديمية في حضرة موضوع ساحر؛ فحين يحضر سحر اللغة تختفي القواعد، أو تتماهى مع نشوة التلقي. ذلك أنّ المبدع الذي يحفر عميقاً في ذاكرة المتلقي هو ذلك الذي يعرف القواعد من أجل أن يتجاوزها، لا من أجل أن يتقيّد بها.
الإبداع حالة عرفانية تفترض التنوير، والتحرر، والتوحد، وحتى يكون الإنسان مبدعاً فإنّ أولى قواعد الإبداع هي العشق، خاصة حين يكون هذا العشق ممنوعاً، بين حبيب وحبيبة بعيدة، بين مشرد ووطن مغتصب، أو عشقاً من طرف واحد بين رجل وامرأة أو بين حمامة وصيّاد.
في حديث العشق واللغة تحضرني حادثتان؛ تعود الأولى إلى خمسة وثلاثين عاماً، عندما كنت أشارك في مهرجان للشعراء الشباب في حمص، حيث تعرفت إلى شابين هما عمر وليلى، وكان بينهما هوى طارئ عنيف، وكنا نجلس ثلاثتنا حين تلقت ليلى خبراً أجبرها على مغادرة المهرجان، وبقينا نجلس أنا وهو على كرسيين، بينما ظلّ الكرسي الثالث فارغاً. نظر عمر إلى الكرسي الفارغ بعينين دامعتين ثم قال:
"الفراغ الجالس في المقعد المجاور
غادر مكانه
وسقط في قلبي"
هل تعرفون معنى أن يحفظ إنسان عبارات سمعها قبل خمسة وثلاثين عاماً؟
بالعشق وحده جاء الإلهام، وبالعشق وحده رأى عمر ذلك الفراغ الذي يجلس على كرسي كانت تشغله حبيبته.
أما الحادثة الأخرى فتعود لصديق فلسطينيّ أعرفه، كان يعشق فلسطين عشقاً أسطورياً، فلا يكتب إلا عنها، ويرى أن اللغة تتألف من ستة أحرف لا تزيد ولا تنقص. غير أنه حين عشق امرأة كتب لها: "كنت أظنّ أن اللغة ستة أحرف، واكتشفت معك أنها تزيد على ثمانية وعشرين قمراً".
هكذا نزلت كلمة قمر من السّماء لتدخل لغته وتُغنيها، وهذا هو العشق الذي يجعلنا نرى الأشياء الخافية في لحظة التجلّي.
بالعشق نجعل اللغة ضفائر حين نرى الناس والأشياء بنظرة مختلفة عن الآخرين، وبه نفتح مدناً مغلقة من خلال الكلمات، حين نعشق ننتظر كلمة من معشوقنا، لنذهب إلى مدينة أخرى، أو لنفتح باباً، أو لندخل مغارة لا تفتحها إلا كلمات سحرية، فالأبواب المغلقة والمدن المغلقة كما تقول الحكاية لا تفتحها القوة، بل الكلمات السحرية التي تردد صدى عبارة ما زلنا نحفظها منذ الصغر: "افتح يا سمسم".
ولأن العشق الإبداعي حالة نيرفانية، فإن ذلك يعني أن نتأمّل ما حولنا بكلّ حواسنا، وأن نستقلّ عن أجسادنا، ونشحنَ طاقات الروح، وأن نحسن النظر للأشخاص والأشياء بقلوبنا لا بعيوننا، لكي نكتشف اكتشافات مذهلة، تجعل القارئ يشعر بالدهشة حين يقرؤها.
نتأمل السلحفاة التي تحمل قوقعتها على ظهرها؛ فنرى في تلك القوقعة بيتاً أو وطناً، ونشعر حيالها بالحسد، أو الغبطة، خاصة إذا كنا غريبين أو مغتربين أو متغرّبين، ونتمنى أن نكون في لحظة ما مثلها حتى لا نشعر بالغربة.
نتأمّل الظل، وهو يصغر ويكبر، ويفاجئنا مرة، ويخادعنا مرة أخرى، فنعشقه، ونحاوره، ونشاكسه. ألم يفعل محمود درويش ذلك في قصيدته التي مطلعها: "الظل لا ذكر ولا أنثى/ رماديّ ولو أشعلت فيه النار". نتأمل الظلّ مثلما نتأمل المرآة، لتولد في قلوبنا آلاف القصص والقصائد، عن رجل يرى ظله أكبر منه، وعن رجل يسابق ظله، وآخر يريد أن يتخلص منه ولا يستطيع.
والمهم في الأمر هو أن نتأمّل ونرى، بشكل أعمق مما يرى الآخرون، وأن نبقى على مسافة أبعد قليلاً منهم، ليكون التجلّي أكثر صفاءً. ألم يقل محمود درويش: "ابتعد كي أراك".
كيف نضفر اللغة لكي يشعر المتلقي بالسحر الحلال إذا لم نر الأشياء بشكل يخالف (ما) يراه الآخرون؟ وإذا لم ننشئ بيننا وبين عناصر الطبيعة، أو بين عناصر الطبيعة ذاتها، علاقات مجازية تتجاوز قانوني الجاذبية والنسبية؟
كيف ننشئ علاقاتٍ لا نكتفي فيها بأكل الصبّار؛ بل بالنظر إليه في كينونته الوجودية؛ حيث لا تستطيع الصبّارةُ الأم أن تعانق صغيرها حتى لا تدميه الأشواك. علاقاتٍ لا نكتفي فيها برؤية الشمس التي تذيب الثلوج، بل نرى رجل الثلج وهو يعترف بحبه للشمس فيذوب من الخجل؟
تضفير اللغة يعني سحرها بالضرورة؛ حين يقوم على نظرة تتبصر الأشياء وتؤمن أنّ الإبداع في الاختلاف والتعدد؛ فحين تكتب عن الغيمة المبتسمة، والغيمة الباكية، والغيمة العاشقة فإنك واجد صيغاً متعددة للإبداع، وحين تكتب عن رجل ميت يمكن أن ترى فيه مراقباً أو مرافقاً للجنازة في صيغ إبداعية مدهشة، وحين تنظر للنوافذ والأبواب نظرة متعددة ستبلغ من سحر اللغة غايته.
ومن لم يصدّق فعليه أن يفتح ديوان أحمد مطر؛ ليقرأ قصيدة الأبواب، أو فليسمع أغنية "البواب" لفيروز؛ ليدرك أن الأشياء المحرّضة على الإبداع جواهر منثورة أمامنا، وما علينا إلا التقاطها، هذا فقط إذا كان في قلوبنا ما يكفي من العشق.

تعليق عبر الفيس بوك