"نصر بلا حرب"

علي المعشني

 

◄ أمريكا تنتصر على أي دولة بآلتي الإعلام والحشد العسكري المزعوم

◄ الحلف الأمريكي أصيب في مقتل إقليمي من قبل تيار المقاومة والممانعة

"نصر بلا حرب" هو عنوان لكتاب ألفه الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون لخص فيه الاستراتيجية الأمريكية لسيادة العالم وإشعال الحروب فيه دون تدخل أمريكي مُباشر، مستخلصًا الدروس والعبر من كارثة حرب فيتنام وهزيمة الجيشين الأمريكي فيها والصهيوني في حرب العاشر من رمضان عام 1973م، رغم تفوق الصهاينة على العرب في العُدة والعتاد والسلاح النوعي.

وهذه تعريفات لمترجم الكتاب إلى اللغة العربية المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة:

"وتأتي أهمية الكتاب كون مؤلفه ريتشارد نيكسون هو صاحب مبدأ نيكسون القاضي بتخلي الولايات المتحدة عن التَّدخل المباشر في مختلف المشكلات الدولية وعن لعب دور الشرطي للإمبريالية العالمية، وينبغي للولايات المتحدة ألا تتدخل في أي نزاع في العالم الثالث بقواتها المسلحة مستقبلاً ضد رجال حرب العصابات، ما لم تتدخل قوة كبرى أخرى فيه، وتقدم أمريكا مساعدات عسكرية واقتصادية بالكميات الكافية لهزيمة المتمردين". واعترف نيكسون في الكتاب قائلاً: "إن هزيمة إسرائيل في عام 1973 جعلتني أؤمن بأن المواجهة العسكرية مخاطرة، وأن التفوق في التسليح لا يعني ضمان النصر".

ففي كتابه يؤكد نيكسون أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكنها أن تنتصر على أي دولة في هذا العالم، مهما كانت كبيرة وقوية، وفي أي وقت وتحت أي ظرف دون أن تدخل حرباً فعلية مع هذه الدولة شريطة أن تعتمد وسيلتين:

الوسيلة الأولى هي إطلاق حملة إعلامية مكثفة وضارية لتشويه سمعة هذا البلد، وتأليب الرأي العام الأمريكي والعالمي ضده، بهدف التأثير النفسي عليه من الداخل.

الوسيلة الثانية التي يجب أن تتزامن مع الحملة الإعلامية هي حشد أكبر قدر ممكن من الجيوش والأساطيل الأمريكية والاستعداد الجدي للحرب، بحيث يدخل في عقل البلد المقصود أن الحرب واقعة لا محالة، وأن الحلم بالنصر على الولايات المتحدة بإمكانياتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية الهائلة هو أمر مستحيل، عندئذ سوف يستسلم هذا البلد، وينصاع لكافة المطالب والإملاءات الأمريكية، وبذلك تنتزع الولايات المتحدة النصر بلا حرب". (انتهى).

من واقع المُعطيات على الأرض فإنّ نظرية نيكسون لم تدم بعد عهده الرئاسي ولم يلتزم بها من خلفه من الرؤساء، فقد شارك الجيش الأمريكي في حروب خارجية كبيرة وتكبد خسائر جسيمة كذلك مثل حرب الخليج الثانية وحربي احتلال أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003، وكل ما عرفته تلك الحروب جميعها هو تكتيكات في اختيار المقاتلين بحيث تم التركيز على الملونين غير البيض والمجنسين الجُدد والموعودين بالجنسية إضافة إلى التعاقد مع شركات أمنية تؤمن المرتزقة كبلاك ووتر وأخواتها، وكل هذا الاحتراز بقصد امتصاص غضب الرأي العام الأمريكي ونشر أرقام ضئيلة لحجم الخسائر من الأفراد من أطقم الجيش الأمريكي فقط وماعداهم من الشرائح المذكورة أعلاة فلا يعتد بهم ولايعتبرون في عداد القوات أو الخسائر الأمريكية، وهذه الخطوة كانت من الضرورات التي أملتها تجربة حرب فيتنام وما أحدثته من تصدع في الرأي العام الأمريكي والنُخب السياسية نتيجة الخسائر البشرية المهولة في الجيش الأمريكي حينها.

أبقت السياسات الأمريكية المُتعاقبة على وسيلتين من وسائل إستراتيجية نيكسون في تحقيق نصر بلا حرب وهي: التصعيد الإعلامي الكبير في تشويه الخصوم وتضليل الرأي العام، وتحريك القوات المسلحة بكافة قطعاتها لتقترب من منطقة الخصم والتصعيد العسكري والاقتصادي فيما يُعرف بسياسة حافة الحرب لتحقيق أكبر قدر من المخاوف والتنازلات من الخصم.

ما يهمني بعد هذه المقدمة الضرورية هو محاولة قراءة التصعيد الأمريكي الأخير وقرع طبول الحرب في المنطقة وتوزيع التُهم للتمهيد لشيء ما في نفس يعقوب وهو تجسيد للوسيلتين أعلاه وفق إستراتيجية نيكسون في شقيها الإعلامي والعسكري.

الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها أو إغفالها أن الحلف الأمريكي اليوم أصيب في مقتل إقليمي من قبل تيار المقاومة وحلفائهم الدوليين، وأن الهزائم النكراء على الأرض السورية والعراقية واليمنية بددت أحلامهم وجعلتها في خانة الوهم المتبدد والمتجدد معًا وقلصت كثيرًا من هامش المناورة لديهم، وبهذا فإنَّ البديل هو التصعيد للتذكير بأنهم طرف في الصراع ليتسولوا جوائز ترضية وبأثر رجعي يهديها لهم الفاعلون على الأرض. لأنهم يدركون كامل الإدراك أن خوض أي حرب لهم ستكون بمثابة انتحار وخيار نيرون التاريخي: "علي وعلى أعدائي". فحلف المقاومة اليوم لم يعد فصائل معزولة في جغرافيات ضيقة بل أصبح دولا وشعوبا وجغرافيات شاسعة ورديفا دوليا صلبا له مشروع ومصالح وتعاطف شعبي عربي وأممي كبيرين.

العقلاء في الاتحاد الأوروبي يسعون جاهدين إلى النأي بأنفسهم عن مقامرة أمريكا وحلفائها في المنطقة رغم مواقفهم المبدئية السلبية من مكونات حلف المقاومة ومشروعه بالنسبة والتناسب، إلا أنهم يدركون مغبة الحرب ونتائجها وارتداداتها عليهم وعلى مصالحهم وفي هذا الظرف الساخن جدًا بالذات، ويرسلون في المقابل رسائل تحذيرية جادة شارحة ومبررة بجلاء شديد لمخاوفهم من الحرب إلى الحلف الأمريكي الصهيوني. الأمريكان على كل حال بنرجسيتهم وتعاليهم لايتعظون ولايكلون من تكرار الفشل فهم لايفكرون بل يجربون حتى يفشلون وكما وصفهم الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، لهذا لاجديد في الخُطى الأمريكية اليوم.

الجديد اليوم هو عند الطرف الآخر للحلف الأمريكي وهو حلف المُمانعة والمقاومة، فجديده هنا أنَّه تمكن من خلق حالة متقدمة ومجربة من توازن الرعب والردع مع العدو وبالتالي أصبح في مرتبة تؤهله لتحقيق نصر بلا حرب من خلال هذا الواقع الذي أوجده وتموضع من خلاله في قلب الحدث وصانه بالقوة والإرادة الصلبة وكذلك من خلال تصدع الحلف الأمريكي وإصابته بكل أعراض عجز القوة. فحلف المقاومة اليوم يدرك أن أمريكا ليست جغرافية سياسية محددة المعالم والحدود يصعب الوصول إليها عسكريًا بل أمريكا هي جملة من المصالح الاستراتيجية الهامة للغاية في المنطقة والتي يمكن من خلالها هزيمة أمريكا وإلحاق أضرار بالغة بها وتعطيل منظومتها الاستعمارية وبالنتيجة تقزيمها عالميًا. كما إن حلف المقاومة اليوم يمتلك القدرة العسكرية للوصول لجميع الأهداف الحيوية للمصالح الأمريكية في المنطقة وعلى رأسها الكيان الصهيوني الغاصب بكامل جغرافيته ومفرداته.

وحتى نتجنب التنظير ونتعمق في الأدلة القطعية التي لا اجتهاد معها أو بعدها على قدرة حلف المقاومة اليوم على الردع والحفاظ على مكانته التي أقتطعها لنفسه وعمدها بالدم والعرق ليخلق واقعًا إقليميًا جديدًا يكون هو فيه من يحقق المبادرة والمجد ويهدي صكوكهما لمن يشاء ودون منافس أو منازع آخر إقليمي أو دولي.

علينا استعراض التالي:

-     نجح حلف المقاومة في الحفاظ على قلب المقاومة وحاضنته سوريا من السقوط كدولة ونظام وسياسات طيلة سنوات المؤامرة السبع العجاف.

-     ألهم حلف المقاومة القوى الوطنية العراقية الانخراط طوعًا في رسم واقع العراق وملامح مستقبله عبر القضاء على الإرهاب والتقسيم.

-     نجح النظام السوري ومؤسساته الحرجة طيلة سنوات المؤامرة في امتصاص الصدمات وإعادة إنتاجها للخصم بضراوة أكبر؛ حيث برهن النظام على صلابة مؤسساته وعمق وعيها ودقة تخطيطها وتناغمها ومهارتها في إدارة الأزمة وتحطيم حلقاتها الحرجة حلقة حلقة.

-     براعة النظام السوري وصلابته في احتواء الأزمة وإدارتها هو ما شجع الحلفاء الدوليين على الانخراط بقوة في الأزمة وقد لخص لافروف تحالف بلاده الصلب مع سوريا بالقول: إن روسيا لاتتحالف مع الضعفاء.

-     الدهاء السياسي السوري والتلاحم المؤسسي للدولة والشعب هو ما أجبر جميع حلفاء سوريا على التيقن بأن مصالحهم مع سوريا (النظام والسياسات والمؤسسات) أكبر بكثير من مصالحهم في سوريا.

-     اتصف النظام السوري وصُنف منذ تحالفه الاستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي على أنه نظام عميق وصلب وشديد الغموض والتكتم لخصومه ويتميز بمؤسسات عقائدية عميقة كالحزب والجيش والاستخبارات، لهذا كان جهاز الموساد الصهيوني يعتبر دمشق بيئة استخبارية خطيرة على عناصره.

-     استطاع النظام السوري خلال سنوات الأزمة الاحتفاظ بسرية تخزين أسلحته الحرجة التي لم يوظفها في الحرب كالفائض من أسراب الطيران والصواريخ البالستية كي لا تدمر أو تقع بيد العصابات، وهذا يعد مؤشر قدرة خارقة لمؤسسات تعمل تحت سقف أزمة حادة وغير مسبوقة في التفاصيل والأدوات وأطرافها قوى عظمى.

-     طول زمن الأزمة السورية وتفشي أسرارها وأهدافها وقذارة أدواتها وأساليبها ومراحلها برهن للحلفاء الدوليين أن الأزمة السورية هي مجرد إحماء سياسي وعسكري لاقتلاع الخصوم الكبار في اللحظة المناسبة وكخطوة تلي دمشق لهذا استبسل الكبار لجعل دمشق مقبرة للمؤامرة.

-     حلف المقاومة اليوم في وضع مثالي متعدد الأوجه والأقطاب من الناحية العسكرية أو القوة النارية أو الاستخباراتية أو الجغرافيا، وبنظرة سريعة اليوم يمكن قراءة وتسكين جميع الخُطى في سياقها الطبيعي والاستعداد للمعركة المصيرية، بدءًا من زيارة بوتين لطهران ومانتج عنها وزيارة وفد حماس لطهران ولقاء نائب رئيس المكتب السياسي لحماس بسماحة السيد حسن نصرالله في بيروت ثم زيارة مستشار المرشد الأعلى علي ولايتي لبيروت ولقاءاته المتشعبة.

-     قناعة الرئيس نيكسون بأنَّ السلاح المتطور لا يصنع النصر وحده، وبالنظر إلى حربي فيتنام وأكتوبر، يتبين أن الصراع في الأساس هو صراع حقوق وإرادات بالدرجة الأولى، وأن محور المقاومة يحمل رصيدا وافر العقيدة القتالية والسياسية المدعمة بالحق والإرادة الصلبة لمواجهة أي عدو أضيف عليهما التمرس الميداني لسبعة أعوام في حرب كونية مفتوحة ومتعددة الجبهات.

-     شعار "نصر بلا حرب" لم يعد استراتيجية أمريكية فحسب بل صناعة تصنعها العقول المتفتحة والإرادات الصلبة، والمقاومة اليوم في أوج عطائها الفكري والميداني وهو ما لم يستوعبه الحلف الأمريكي بعد ولم يهضم أفول نجمه وبزوغ نجوم خصوم وأنداد له كانوا يرتلون الهزيمة ذات يوم ويؤمنون بالقضاء والقدر الأمريكي حتى الثمالة.

-     وفي الختام يمكن الجزم بأنه في حال قيام حرب ما في المنطقة وقرر الحلف الأمريكي الانتحار فإنَّ حلف المقاومة في وضع جهوزية مثالي في العدة والعتاد يضاف عليها أن الأرض والجغرافيا ستقاتلان في صف المقاومة بلا أدنى شك، وسيكتشف الحلف الأمريكي بعد فوات الأوان أنّ جوائز الترضية كانت أفضل لهم بكثير من الانتحار المبكر والإجهاز على ضغث الحلم والله غالب على أمره.

-----

قبل اللقاء: الكارثة أن النظام الرسمي العربي لم يستوعب بعد تفشي ثقافة المقاومة بين الأجيال في ظل وجود الدولة، ولم يستوعب بعد بأن تخاذله ووهنه وشتاته الاختياري هو من أوجد المقاومة ووسع من مساحتها كخيار شعبي وبديل حضاري، ولم يستوعب بعد بأن هذه المقاومة لاتزال في مرحلة التناغم مع النظام رغم تباين الهدف والوسيلة ولم توجه بندقيتها أو خطابها للنظام رغم كل التباينات بينهما، ولم يستوعب النظام الرسمي العربي أن المقاومة هي خيار المستقبل ولغة الضمير العربي وأن تعايشهما المتناقض لن يدوم إلى الأبد.

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com