مات والمسلمون لفعله شاكرون

الشيخ سالم الرواحي.. كاتب أسرار ملوك زنجبار وذاكرة علماء عمان

...
...
...
...
...

الرؤية – محمد علي العوض

ما إن جلس السلطان السعيد برغش بن سعيد على كرسي الحكم هناك حتى بدأت بوادر النهضة تعم أرجاء زنجبار، فتم تشييد العمران وتخطيط المدن وإنشاء المطبعة التي لعبت دورا هامًا في تطور الحركة العلمية؛ حتى أضحت زنجبار مقصدا وكعبة يفد إليها كل العلماء، فقد شهدت الهجرة العمانية إلى زنجبار خاصة وإلى شرق إفريقيا عامة نقلة نوعية في عهد السلطان برغش، تمثلت في انتقال العديد من العلماء والأدباء والشعراء وأهل الفكر والثقافة إليها. فاحتضن البلاط البرغشي الذي كانت تقرأ فيه كتب الدين والسيرة والشعر أهل العلم والأدب.

تلك الحياة السلطانية بطابعها البرغشي الذي قرب أهل العلم إلى السلطان جعلت المقام يطيب للشيخ سالم بن محمد بن سالم الرواحي حين استقدمه السلطان برغش منذ صغره ليكون كاتبا له هو وأخوه الأكبر الشيخ عبد العزيز. وهناك نهل الرواحي العلم من الشيخ يحيى بن خلفان الخروصي، والشيخ سيف بن ناصر الخروصي والشيخ أبي مسلم ناصر بن سالم البهلاني، وغيرهم من كوكبة أهل العلم والأدب الذين امتلأت بهم زنجبار آنذاك، حتى أنّ الشاعر أبو مسلم وصفهم:

هم القوم لا يشقى جليسهم بهم

صنائعهم في الدهر كالفلق الثاني

أجاد شيخنا في تلك الفترة صناعة الخط العربي وأسلوب المكاتبات النثرية وتدوين محاضر المحكمات التي يشهدها السلطان وكذلك عبارات الوقف التي يستفتح أو يختتم بها السلاطين كتبهم، كما اتخذه الحكام كاتبا ومستشارا لهم. عمل الشيخ سالم الرواحي في كتابة الدواوين السلطانية حتى أن معاصريه أطلقوا عليه لقبي "كاتب الحضرة السلطانية و "كاتب أسرار ملوك زنجبار".

لم يكتف الشيخ الرواحي بمواكبة ومجايلة بواكير عصر النهضة في زنجبار بل عاصر عددا من سلاطينها؛ على رأسهم السلطان برغش بن سعيد، والسلطان خليفة بن سعيد، والسلطان علي بن سعيد، والسلطان حمد بن ثويني بن سعيد، وظل كاتبا ومستشارا لسلاطين زنجبار – بصفة غير رسمية - إلى عهد السلطان خليفة بن حارب بن ثويني.

تفاعل علمي

تفاعل الشيخ سالم بن محمد الرواحي مع تلك الحياة المليئة بالعلم والمجد، فراسل العلماء شرقا وغربا ومنهم: الإمام نور الدين السالمي، والإمام محمد بن عبد الله الخليلي، والشيخ الشماخي بمصر، إضافة إلى قطب الأئمة ابن أطفيش بالجزائر، الذي جرت بينه والشيخ الرواحي كثير من المراسلات، وتوطدت العلائق بينهما لدرجة أصبح فيها الرواحي حلقة الوصل بين قطب الأئمة وعلماء عمان، بل بلغت حد أن يصبح الشيخ الرواحي وابنه محمد مراسلين في زنجبار لجرائد أبي اليقظان في الجزائر.

ولم يعرف عن الشيخ أنه اشتغل بالتأليف، وإن كان من نافلة القول الإشارة هنا إلى كتيبه الصغير الذي جمع فيه نبذة عن مناسك الحج والأدعية المأثورة فيها؛ لكنه كان ذا يد طولى في بث المعارف الإسلامية وإحياء التراث الإباضي، ودعم الحركة العلمية في زنجار وعمان.

وكان له باع كبير في جمع ونسخ مخطوطات المذهب الإباضي كمخطوطة (مراهم القلوب في مناجاة المحبوب) لمحمد بن أحمد بن إبراهيم الشجبي، و(جواب إلى القاضي موسى بن كهلان) لصاحبها سعيد بن أحمد بن محمد النزواني، و(بيان الشرع- الجزء الثاني عشر) لمحمد بن إبراهيم بن سليمان الكندي وغيرها من المخطوطات القديمة القيمة.

هذا بجانب جمعه الكتب الإباضيّة ونسخها وطباعتها بالمطبعة البارونية؛ ككتاب (تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان) للإمام نور الدين السالمي و(النشأة المحمدية في مولد خير البرية) لأبي مسلم البهلاني و(جامع أركان الإسلام) للشيخ سيف بن ناصر الخروصي) وغيرها من الكتب.

لم يجلس الشيخ الرواحي للتدريس ومع ذلك فقد تتلمذ على يديه جملة من الطلبة منهم: علي بن خميس القصاب، وراعي السديرة حمد بن سعيد الهاشمس وسيف بن عبد العزيز الرواحي وعيسى بن سعيد بن ناصر الكندي. وفتح الشيخ مدرسة لتعليم أنجاله القرآن ومبادئ العبادات وأقام عليها المعلم عبيد بن زايد المعولي.

فعل الخيرات

(لقد مات والمسلمون عنه راضون ولفعله شاكرون).. هكذا وصفه الإمام الخليلي وسماه بالرجل الصالح في مقدمة كتاب "التاريخ المصور للشيخ سالم بن محمد الرواحي" للباحث سلطان بن مبارك الشيباني.

وفي ذات التقدمة كتب عنه فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي (كان الشيخ سالم بن محمد الرواحي... موئلا للضعيف ومأوى للضيف إذا ما ضاق المكان بالضيف.. هيأه الله لقضاء حوائج الناس، مع ما من الله عليه من صلاح في الدين).

ومن نماذج قضائه لحوائج الناس أنه كان يعينهم بكتابة أوراق البيوع وعقود البيع والتوكيل، وكان

الإمام الخليلي يعتمد عليه في ذلك ولا يطمئن إلى وثيقة أو صك بغير خط الشيخ الرواحي.

صوّر كتاب (التاريخ المصور للشيخ سالم بن محمد الرواحي" للباحث سلطان بن مبارك الشيباني، والصادر ضمن إصدارات سلسلة "ذاكرة عمان" حياة الشيخ الرواحي بأسلوب متفرد، ولغة جزلة، وأحاط بجوانب مهمة ومشرقة من حياة الشيخ ومجهوداته العلمية، ولا نغالي إن قلنا إنّ الكتاب بما حوى من صور شخصية للشيخ وأبنائه ومعاصريه، وبما تضمنه من صور للمخطوطات والكتب والمكاتبات وأشكال النثر الأخرى يستحق أن يكون مرجعا فريدا للباحثين والمؤرخين.. فالكتاب يصوّر فترة خصبة من تاريخ عمان وزنجبار وعلمائها، ويعد سِفرا قيِّما من ذاكرة عمان.

تعليق عبر الفيس بوك