عَظَمَةُ العبقريّة.. المُتنبي أُنمُوذجًا

محمد عبد العظيم العجميّ - مصر

 

هل يخضع الشعراء لذلك التحليل النفسى الذى يخضع له عموم الناس، أم إنهم أشخاص ذوو تكوينات وطبائع بشرية ونفسية أشد تعقيدا وأعمق تفسيرا.. لا شك أن الموهبة ـ أيا كان نوعها ـ هى منحة ربانية فى صورة نفحة، أو إرهاص روحيّ ذات طبيعة وتحليل أكثر تعقيدًا من غيرها ضمن "منظومة السلوك البشريّ"، ومن ثَمَّ فإنّ ما تتركه من أثر على ذات صاحبها وشخصيته؛ بل وعلى بيته الجسميّة أحيانا، يُبرزُه فى صورة أكثر تميزا وحيرةً وقلقا بالمفاضلة مع أقرانه من البشر..
وهذا الموضوع قد تطرق إليه أكثر من كاتب وكِتاب، وخاصةً علماء التحليل النفسيّ الذين حاولوا إيجاد تفسير لهذه المسألة التى تبدو إلى الآن عصيّة على التفسير إلا فى بعض الاجتهادات، نذكر منها: "آفاق فى الإبداع الفنى ـ د . أحمد عكاشة" ، وكتاب" العبقرية والإبداع والقيادة ـ دين كيث "، و"عبقريات" عباس العقاد الشهيرة وغيرها.
 لكننا نحسب أن ما كان له نفحةٌ من الغيب، ومنحة، من الربّ لا يمكن أن يخضع كُليا للقياس البشريّ وإلا لكان نصيب الإبداع والعبقرية فى متناول الكثير. ولكن قد  ندرك بعض هذا الإبداع إلا أنه يبقى في معظمه لُغزا لا يخضع للقياس أو التحليل.
ويأتي أبو الطيب المتنبي ـ الشاعر والإنسان ـ أنموذجا على ما تقدَّمَ ذكره؛ فهذا العبقريّ الذى ملأ الدنيا، وشغل الناس في زمانه، فى حِلِّه وتِرحاله، ومازال يشغل دارسي الأدب، حتى لحظة كتابة هذه المقالة وسوف سيمتد تأثيره إلى ما شاء الله فى مشرق الأرض ومغربها، كما قال نزار قبانى:
فلا خيول بنى حمدان راقصة
                          زهوا  ولا المتنبي مالئ حلبا

هذه الشخصية الغريبة الأطوار، والتى كانت مشغل كثير من الأدباء والنقاد والمحللين، لما تميزت به من براعة شعرية بزَّت فيها أقرانها، وتلك الحكمة التى تخللت هذا الشعر فجعلت معظمه مضربا للأمثال، ولهجا تلهج به كثير من ألسنة المحبين والمبغضين، وما خلَّفه من تراث قد أبدع فى جميعه، هذا الشاعر الذى استطاع أن ينقش اسمه على صفحات تاريخ الشعر العربى، حتى قال عنه محمود درويش: "كلنا نسبح فى فضاء المتنبى".  
عاش المتنبى الشاعر نوعا من الانفصام النفسي، والانفصال الاجتماعي؛ نتيجة الأحداث السياسية التى تمر بها الدولة العربية آنذاك من تقطع أوصالها وتغليب الأهواء من الأمراء، وتغلب الجنس غير العربى على الساحة السياسية، حيث أيقن أن زمانه لا يسعفه أن يحقق ما تتوقه نفسه من المجد والملك وقد كان صاحبَ هِمة نزاعةٍ وفؤادٍ جامحٍ وقلبٍ متقدٍ،  لم تمنحه الأقدار شيئا  من النسب الشريف والقبيلة المتجذرة أو الغنى والعيش المنبسط، أو شيء من هاتيك المقومات التى ترفع الأقدار وقد تصنعها أحيانا، لم يكن له حظ من الحياة غير هذه الموهبة الفذَّة والنفس الأبيّة التى دفعت به في بحر الحياة فطرق أبواب المجد وتنقل فى بلاط الأمراء، غير أنه لم يستطع أن يقبض منها على شئء سوى هذه القصائد الخالدة، وربما لو تطلع من شرفات الغيب الآن لعرف أنه قد حقق من الكسب التاريخيّ والأدبيّ ما لم يكن يحلم به حتى ولو كان يردد ذلك  بين خطرات شعره:
أهم بشئ والليالى تطاردنى          
                            عــن كـونه وأطـــــارد
وحيد من الخلان فى كل بلدة
                   إذا عظم المطلوب قَلَّ المساعدُ

لم تستسلم نفسه لواقعية الأحداث ولم تتآلف معها، ولو كان ذلك لربما حقق شيئا من الملك الذى كان يصبو إليه، لكنه تنازل عن المتعة الوقتيّة التى لم تَمُل إليها نفسه ليحقق بدلا منها هذا الكسب التاريخيّ والمثل التى كان يتمثلها فى شعره، وفضَّلَ نزق الغربة، ونسق الاغتراب، وحاول أن يُطوعَ زمانه لأفكاره التى كانت تتغنى بالمجد والسيف والقرطاس والقلم، واستنهض المجد العربيّ المتأخر واستحث فيه النخوة والهمّة كى لا يضيع فى غمرات الترف والضعف النفسيّ. وحسبنا في هذا المقام من القول:
لا تحسبن المجد زقا وقينة          
                         فما المجــد إلا السيــف والفتكة البكـــرُ
وتضريب أعناق الملوك وأن     
                        ترى لك الهبوات السود والعسكر المجرُ
وتركك فى الدنيا دويا كأنما     
                       تـداول ذِكــــر المــــرء أنـمله العــــــشر

انظلم المتنبي كما يُظلم أقرانه من أصحاب المواهب حين نحاول المطابقة بين النفحة الشعرية والأداء الأدبي من ناحية،  وبين ما كانوا يتخلَّقون به من خُلق، وليس كما يقول المتحرِّرون: "إنَّ الأخلاق والدين تقيِّدُ الموهبة"؛ فمن الجور أن نطالب الشاعر الذى يتحدث عن الفروسية بأن يكون فارسا، والمُخلِصَ المُجِدَّ أن يكون أصيلا، ومُرهفَ الإحساس أن يكون عاشقا هائمًا؛ ولكن تكفيهم هذه المحصِّلة الإبداعيّة من الحكمة الشعريّة والتفرُّدِ فى الأداء الذى قد يصل إلى آفاق واسعة من العبقريّة.
 وإذا كان الشاعر يعيش القصيدة كحالة وجدانيّة تتبلور من إفرازات الواقع الذى يحياه فتفرض نفسها عليه كما يقول أحمد مطر:
أنا لا أكتب الأشعار فألأشعار تكتبني      
                                    أريد الصمت كي أحيا ولكن الذى ألقاه ينطقني

وكما يقول سقراط: "إنَّ الشاعر لو تفكَّرَ بعقله، وأدركَ ما يدور حوله، ما استطاع أن يكتب الشعر"؛  إذن الموهبة نوعٌ من الخروج على المألوف فى الصِّنعة من حيث التجديد والأداء، وقد نَعدُّ موهبة المتنبي نوعًا من الخروج على المألوف فى الموهبة الشعريّة ذاتها، ولولا ذلك ما استمر هذا الشعر مع الزمن يُرَدَّدُ فى المحافل الأدبيّة والمجالس الاجتماعية، ولا يوجد بين مثقفي العربيّة أوأجناس الشعراء والأدباء والخطباء مَنْ لَمْ يتغن بشيءٍ من شعر المتنبى، ويتمثل به فى المَآنس، ويصدع به على المنابر، وينثره بين سطور الكتب.

وما الدهرُ إلا من رواةِ قصائدي    
                                إذا قلتُ شِعرًا أصبحَ الدَّهرُ مُنشِدا
وسار به من لا يسير مشمرا   
                               وغنَّــى بــه من لا يغنــي مُغــردا

يحزُّ في النفس أن نجد عميد الأدب العربيّ طه حسين يتحامل كثيرا على المتنبي فى كتابه "مع أبى العلاء فى سجنه"؛ حيث وصفه بالصلف والغرور والتملق على أبواب الأمراء والملوك، ويتعاطف مع أبي العلاء ويُشفق عليه مما فرضه على نفسه وفيما ضيقت عليه الحياة فيه. إلا إذا أخذنا هذا التعاطف من وجهة مغايرة فربّما عميد الأدب العربيّ كان يتعاطف نفسيا مع صنوه أبي العلاء للتشابه بينهما في الإعاقة البصريّة التي خلّفت في نفسه وأدبه نزعة الاستعلاء، فأبو العلاء نفسه كان من أشد المتعصبين والمتأثرين بالمتنبي شعرا وسلوكا، ومحاكاة فى الاعتزاز بالنفس والفخر الذى وصل به إلى حد الإغراق فى بعض الأبيات ربما أكثر من المتنبي:
يُـهِمّ الـليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ
                                 ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِل
وإنـي وإن كـنتُ الأخيرَ زمانُهُ
                                لآتٍ بـمــا لـم تَـسْتَـطِعْهُ الأوائـــل
وأغـدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ
                                وأسْـــرِي ولــو أنّ الظّلامَ جَحافل
وإنـي جَـوادٌ لـم يُـحَلّ لِجامُهُ
                              ونِـضْوٌ يَـمانٍ أغْـفَلتْهُ الصّيــاقــــل

والخلاصة التى نستنبطها.. أن التاريخ لا يعرف المجاملة ولا المداهنة، قد يكون أرستقراطيا أحيانا فلا يذكر إلا السَّادة والكبراء، لكنه غالبا يعطي نوعًا من الإنصاف والتوصيف لأقدار البشر وإن لم يكونوا ذوي حظ في زمانهم، ولولا براعة المتنبي لما خلَّده التاريخ على مرّ الزمان، ولاندثر شعره مع مرور الوقت، أو احتجب فى صفحات الدراسات الأكاديمية، وإنما توجد دائما هذه النسبة العبقرية بين البشر التي تستطيع أن توجه دِفَّةَ التاريخ ليحتفي بالنبغاء والنابهين، ويحفظ لهم قدرهم فى المجال الذي تطرقوا إليه وأبدعوا فيه لأن دأبهم أسمى قدرا من السعادة الوقتيّة التي ينشدها البسطاء على هامش الحياة.. إنها: عظمة العبقرية.

تعليق عبر الفيس بوك