45 ثانية أزهرت أملا في الأرض المجدبة

حمد العلوي

لقد أخبرنا الله -جلَّ جلاله- في القرآن الكريم، أن الأرض إذا ماتت وأتاها الغيث اهتزت وربت، وأزهرت بكل زوج بهيج، وهذا أمرٌ يتكرر أمام مرأى من الإنسان عبر العصور، ولكنْ قليلون هم الذين يأخذون العبرة من آيات الرحمن من حولهم، وسبحان الله بعض من طبائع الأرض تمتد إلى الفرع، ألا وهو الإنسان الذي خُلق من طين، فهو تسكنه خصائص الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فيموت الإنسان ويحيى، وذلك قبل الموتة الكبرى التي تسبق البعث والخلود الأخروي الأكيد، فقد تجبره قسوة معينة على الموت المؤقت والجزئي، وذلك عندما يفقد التوازن المطلوب للحياة، فيُمنع بالقوة القهرية عن ممارسة الحياة الطبيعية بشيء من العزة والكرامة كمثال، فتُكبت بعض مشاعره، ولكن لا تموت القيم في النفس، فتظل كامنة في أعماقه بانتظار الفرج عنها، وقد تثور وتنفجر بفعل قوة الضغط وطول الأمد، وسرمدية الجور والشر، وقوة الاستبداد الذي يخالف الطبيعة البشرية في كون الناس أحرارا مخيرين.

إذن، لولا التوازن المنظم، لفقد الكون كله توافقه وتوازنه وانسجامه، فعلى سبيل المثال: كان في زمن الحضرة النبوية الشريفة لسيدنا محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- تقام دولة حديثة عادلة، يصوبها الوحي الإلهي من الغلو أو الشطط، لذلك لتكون نهجاً وقدوة للعالمين، ورغم تلك الصفوة المنتقاة، التي لا تشوبها شائبة؛ لأنها برعاية إلهية محفوظة بالوحي، إلا أنه كانت هناك دولة أخرى في الظل، تقيم بجوارها دولة الخير وهي معلومة وظالمة، وإن كانت غير معلنة للملأ، ألا وهي دولة المنافقين، ولهم زعيم معلوم علم اليقين للرسول الكريم والمقربين منه من المؤمنين، وذلك بإخبار من الله العزيز العليم، ولأنهم كانوا منافقين لا يؤمنون بالرسول الكريم، لكنهم لم ينزعوا للحرب حتى يقام عليهم حد الحرابة، فسكت عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر بقتلهم وإقصائهم من الوجود، لأن المؤمن لا يحاسب الناس على النوايا، وإنما يحاسبهم على الأفعال.

لكن إذا طغى المنافقون وصارت القوة لهم، فعلوا عكس سلوك وخلق المؤمنين، وهذا ديدنهم فلا عجب إن هم فعلوا الأفاعيل من الظلم والعدوان، بل العجب والتعجب إن لم يقوموا بما يُغضب الله في خلقه، وهم قد أصبحوا خصم لله ورسوله، والعجب الأكبر أن يخنع الأخيار لبطش الفجار وغطرستهم، وكيف يراءون في الحق وهو واضح جلي خوفاً من غضب المنافقين، ولا يخافون غضب الله رب العالمين، إن الذي قرأ القرآن مرة واحدة في حياته، قد يتذكر التحذيرَ الربانيَّ من موالاة أعداء الله، ومن لا يعرف أعداء الله فهو جاهل خطر على الأمة، ونعلم أن هناك الملايين ممن ينتسبون إلى الإسلام بالولادة، لكنهم يهجرون القرآن ولا يفتحون المصحف، إلا إذا انحنت ظهورهم، ورُدُّوا إلى أرذل العمر.

لقد انطلقت بعض الكلمات من فم مرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة الكويتي، رداً على ممثل الكيان الصهيوني في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي الذي عقد في روسيا، وقد أتت تلك الكلمات القليلة والكبيرة على نفوس المكبوتين العرب، كأنها بلسم أشفى من علل كثيرة ومزمنة، وقد سببت تقرحاً في المزاج العربي الحر الشريف، وكأن السماء أمطرت بغزارة على الأرض العطشاء فأورق نبتها الذابل، وذلك بعدما ظن البعض بأن العروبة قد ماتت، وسجي جثمانها بجوار قبر الزعيم عبدالناصر، وإن الذين ظلوا يعملون جهدهم لقبر نخوة الأمة العربية وعزتها، تفاجأوا بأن هناك من لا يزال يستطيع أن ينعت المحتل بصفته التي اتصف بها.

لقد نكأ الغانم ببعض الكلمات جرحاً يؤلم الشعوب العربية وما زال يؤرقها، حتى تلك الشعوب المغلوبة على أمرها، فقد وجدت في كلام الغانم متنفساً من ضيقها، وربما جعلها تشعر بضرورة الخروج من القبور، أو سيجعلها تثور بلا وعي على شيء ظل يؤلم ضميرها، إن شجاعة الغانم ليست شجاعة أتت بغفلة منه، فالرجل الذي نظرت إليه الشعوب العربية على أنه أصبح بطلا قومياً اليوم، والحقيقة هو كان كذلك قبل هذا الكلام، وسيظل وطنياً مسؤولاً، وما كان له أن يرأس مجلس الأمة الكويتي بالصدفة أو التزكية، كما هي الحال في الكثير من الدول العربية، فهو لو لم يكن على مستوى المسؤولية الوطنية، لما ارتقى كرسي رئاسة المجلس من عام 2013م إلى اليوم، فحينما يستدعي الموقف التخلي عن كوابح الدبلوماسية وضوابطها، وإتيكيت الضيافة في دولة غير عربية اللسان، فإنه يفعل، وهذا قدر الشهم الشجاع دائماً.

إن الهجمة العنيفة التي بدرت من المتصهينين العرب، كانت أكثر حدة وغلواً من الصهاينة أنفسهم، لكن لا لوم عليهم فهم قد قطعوا عهداً على أنفسهم، ليس ببقاء دولة بني صهيون محتلة لأرض فلسطين والقدس الشريف، وإنما بجعل العرب أخلاء للصهاينة في أرض العرب قاطبة، وقد اتخذوا هذا القرار قياساً على ما تكنه أنفسهم من محبة لأعداء الله ورسوله، ولأن الفكر الأعوج لا يقود إلا إلى الضلالة -والعياذ بالله- لذلك بدَّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ترجم المستغرب فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنصره ظالماً في رده عن الظلم، إلا أن المنافقين اليوم غيروا مفهوم المثل كاملاً، بحيث يصبح هذا المثل على نحو مختلف بالقول، انصر عدوك ظالماً أولاً.. وإذا كان مظلوماً فذاك واجب، إن هذا الواقع المرير الذي يعتري الأمة اليوم، لم يكن متصوراً الحدوث حتى أعوام قليلة مضت.

إن دليل هذه الحالة أصبح واقعاً معاشاً اليوم، ألا وهو بلوغ البعض قمة الطغيان، والفجور في العداوة، وإن مقولة الإمام علي -كرم الله وجهه- "احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة لعله أعلم بالمضرة"، أصبح أمرا قيد التطبيق مع العرب، ويحضرني مثلا عربيا يوافق حال العرب المتردي، عندما يتحدثون عن غدر القريب، فيقول المرء أينقع بي محزمي: "نقع المحزم  تعبير عن غدر القريب"، والمحزم للذين لا يعرفون هذا المصطلح هو حزام الذخيرة التي يتمنطق به الرجال للزينة والدفاع عن النفس، ولكن إذا نقع (أي انفجر) به، وهو ملتف على خصره، سيكون ضرره محتما، وختاما نرجو الله أن يلهم الأمة العربية سداد أمرها، ويكف عنها الشرور ما بطن منها قبل ظواهرها.. اللهم آمين.