طوبوغرافية (هواء طويل الأجنحة) لـ"عُلَّيَّة الإدريسيّ" (3-4)

الشريف أيت البشير – المغرب


وكأن الشعر هنا في تجربة علية الإدريسي من خلال (هواء...طويل الأجنحة) يستمد وجوده من الكتابة وفيها، كتابة تترك للظلال ظلالها. إنها لاتكشف ولا تضيء، فقط تعتم وتغمض وتلبس القول في محاولات حثيثة نحو ثني المعنى في التركيب وفي الكتابة. ليظل الوهج في التلافيف وفي لاوعي الجملة، وفي "هايديس" المعنى. إنه الجمر في طبقات الدال وفي سيرورة اندلالية لرحلة المعنى أعياها التيه في المطلقية وفي اللانهائي وهي تنظر  بعيونها إلى الداخل، إلى الباطن حيث الذات تسبح في ملكوتها/في جنانها. إن الشاعرة هنا لا تتذكر كي تضيء العوالم المطلوبة، وإنما تشتغل على اللغة وتشغّلها لتمتد إقامتها/سفرها في التأمل، في الصمت وفي النسيان.وعلى حد تعبير برنارنويل فإن:
"المنسي هو ما لايرى
الكتابة هي رؤية ما لا يرى"(كتاب النسيان).ترجمة محمد بنيس.ص79
              ................................................................
تتحدد طوبوغرافية هذا الديوان/القصيدة:(هواء... طويل الأجنحة) في مفصلين اثنين:أحدهما يكون بابه سلفادور دالي بصيغة:(كراسة/سبت الخريف/(...)الخريف سعيد جدا/وسلفادوردالي أيضا(...)صيغة أولى)؛ حيث المطابقة هنا واردة طيماتيا بين الفنان/الرسام و الخريف،كلاهما مترع على السعادة.أما المفصل الثاني فبابه يفتح بإذن من الرسام فان غوخ،هكذا:
(كراسة/خريف أحد/(...)الخريف سيء الحظ/وفان غوخ أيضا(...)"صيغة أخرى").حيث وعلى نفس الشاكلة السابقة تطابق الشاعرة بين الرسام وبين الخريف، لكن هذه المرة بالنظر إلى ماهو سيّء عكس الأولى :إلى ماهو سعيد.وفي التنويع الزمني أيضا مع الأولى يكون الأحد .قد لايبين الفرق بوضوح بين التعبيرين،وكأنّ المسألة لا تتعدى التنويعة المؤكدة من خلال تعبير(صيغة أولى)، وتعبير(صيغة أخرى). لكن ومن خلال إمعان النظر يتأكد الفرق بطريقة عمودية؛بحيث تسافر العبارة في أفقها الدالّي لكنها تحتفر مداليل تثوي في باطن الجملة ليكشف عنها عبر السّبر المتخذ سفره في العمق، أي في اتجاه العمودي. إنّ البابين يؤسسان لما يفرّق بينهما ولما يجمعهما. لعل المشترك هو الانتساب إلى السوريالية بالنسة للرسامين، والمختلف الذي يخلق لكل منهما تفرّده يرتبط بالمنجز التشكيلي الذي يؤكد لكل منهما هويته المخصوصة على تجربته الذاتية. إذ لا يمكن إغفال أثر الجنون الطافح الذي انتهى إليه ف.غوخ والذي أودى به منتحرا...وكأننا هنا أمام التنويع.أمام تصادي تجربتين فنيتين تتواشجان في تفجيرهما للجنون،أو كأننا بصدد استعادة مكر بورخيس حينما أوهمنا بأنّ سرفنتس ليس وحده من ألّف "ضون كيشوط "وإنما أيضا" بيير مينار".
والبابان معا ليس لهما حدّ،إنهما مفتوحان على الإمكان والسيرورة وعلى اللانهائي المترجم في إمكانية العودة إلى البداية بواسطة القراءة العكسية؛بمعنى وجود تداخل وتقاطع يخوّل إمكانية انجاز القراءة بقلب البابين أو العودة إليهما كما أرادت الشاعرة وكأنّ العمل دائري أوهو الدوّار سيان.مادام الأمر هنا يمهّر بجنون الرسام.
ولنأخذ الآن وبطريقة عشوائية "صفحة" نجتزئ "مقطعها" الشعري، يتم تحديده بعد منح أرقام لصفحات الديوان من البداية إلى النهاية، ومن النهاية إلى البداية لرسم نقطة التقاطع، هي هنا عشوائيا رقم38،يصادف التوزيع على صفحتين مختلفتين. ثم نعمل على مقارنتهما وتحليلهما؛هكذا يتعلق الأمر أولا بالمقطع التالي من الباب الأول الذي افتتحه س. دالي لفّته السعادة، ورغبة التشبث بالحياة:
الجدران حولي تجمّعت.
إني مع الكرسي
الثالث
رحيلي ليس هذا المساء...
في حين صادف الترقيم 38 من الجهة المعكوسة أي من ظهر الديوان في اتجاه وجهه "صفحة" مركونة بالباب الثاني الذي افتتحه بدوره الرسام ف.غوخ وهو يتدثّر باليأس والحزن، وهو:
وجهي يستظل بي...
صبيحة أحد
بالكاد يتسع
لسرب خزامى.
تستبدّ بالمقطع الأول تقنية الوصف وخاصيته، في عملية شعرنة عناصر الوجود وفي عملية تفضيء حددت هنا في (الجدران، الكرسي ثم المساء). الجامع بينها هو ضمير المتكلم المتواشج مع كل عنصر منها هكذا: (حولي،إني ثم رحيلي). مما يعني بأن كل تفكير شعري في الموضوع يتم من خلال استحضار الذات في عملية تواشج وتناغم وتداخل يعمل على "توضيع" الذات حينا،وعلى "تذويت" الموضوع حينا آخر. وكأن الرؤية إلى الوجود نابعة من التجربة المخصوصة وقد تخلصت من الثقافة الموروثة الكسولة والعمياء، ثقافة لا تحقق الذات وإنما تعمل في الغالب على إلغائها أو على الأقل على" تغريبها." فما تستمد منه الذات وجودها هو العزلة والفراغ،حين تآخت مع الجدران واستدعتها لاجل دفء منتظر،تماما كما الحال مع الكرسي الذي لا بد أنه أثار اهتمام الباث لفراغه، يصبح لاغيا حين استغلاله من قبل شخص. وكأن حضورالكرسي مستمد من فراغه ،وحضور الذات متحقق من خلال عزلتها وتفكيرها في الرحيل المرتبط حتما بالفراغ والخواء... أو هي دلالة العزلة المستمدة أفقها الدلالي من لفظ (المساء) وما يمكن أن يرتبط به من إيحاء إلى دلالة الإنقضاء والأفول... إن عزلة الذات وصمتها هنا قاتلين وطعمهما حرّيف، حيث أن الفضاء الذي توجد فيه غير مقتسم مع أحد، إنها وحدها تتذوق حواس الوجود. هل يمكن لهذا الإحساس أن يكون منذورا في لا وعيه لسيرة الرسام ف.غوخ؟
قد يكون ذلك، ماداما معا يهتبلان النسيان والهامشية والعزلة والصمت... أفضى ذلك الوضع بالرسام ، في تفاقمه السيكولوجي،إلى الجنون، فالذهاب إلى الاختيار الأنطولوجي برصاصة في الرأس تدمر الجسد كانت مقدمته متجلية في جزّالأذن ومنحها عربون محبة وتقدير لسيدة الحانة. هنا مع تجربة الشاعرة كل عوالم الرسام حاضرة، لكنها تعمل على تحويل إخفاقه إلى نصر هو تسديد طلقة الكتابة في الوجود وتفجير لغته عبر استنطاقه ودفعه إلى خلق النصر باللغة المؤكدة في ألقه، حيث الوعي بالذات باعتبارها البداية والنهاية. فمنها يكون المنطلق وإليها يكون الأوب: "وجهي يستظل بي..."، هو كذلك جنونه يكون. ونحن نذهب إلى تلك التخوم لأن ذلك هو ما يؤشّر عليه الرسام في نسخة س.دالي حينا، وأخرى في نسخة ف.غوخ. ولكن لنبحث عن منطق لهذه الجملة: كيف يمكن للوجه أن يستظلّ بالقامة،بالجسد؟
ما من شك هنا أن  الأثر محدد في الجسم كبلاغة، أي في بنية الجسد، في حين صداه يكون في الوجه ما دام  في الظل. وكأن الجسد فيء له. وعلى اعتبار ذلك فهو أيضا صدى. تكون لذلك حقيقته حينما نعلم بأننا لانملك وجوهنا، هي في ملكية المجتمع، في ملكية الرائي؛ فإن تحمل الوجه هو ألا تراه، ألا تملكه ما دام غير موجود في حقلك البصري. وغير ذلك بالنسبة لرائيك فأنت مالكه. لذا يكون منطق العناية بالوجه من أجل الآخرين. وعلى اعتبار أن الشاعرة هنا تبحث عن حيز في الوجود مبني على الفهم الخاص، فمعناه خلق التفرد والتميز في النظر،وبالتالي عدم الانخراط في ثقافة الدوكسا والعمل على معاداتها، فيكون الاحتفاء هنا أساسا بالحس،بحالة الباطوس، مادام الأمريعني الشعر وإنتاجه. من هنا يأتي فهم هذه النظرة من الدرجة الثانية للوحة حين التمييز بين الأثر والصدى...
قد تتضح هذه الفلسفة "الليفناسية"- نسبة إلى الليتواني ليفناس - أكثر، ربما في تأطيرها الزمني عبر الإشارة إلى "صبيحة الأحد". وما يحمله هذا اليوم من إحساس بالكسل وبالفراغ... فهو يوم عطلة وبالتالي لا رسائل ولا تواصل: "إن ساعي البريد لا،ولن يمر يوم الأحد". ومن هنا الإحساس الفظيع بالانفلات وبالشلل تتفتق انتصارات الشعر عبر الدفع بالعبارة إلى تخوم الجنون؛ فكيف يمكن أن تكون للخزامى أسراب عصافير...؟ تقول الشاعرة:
وجهي يستظل بي...
صبيحة أحد
بالكاد يتسع
لسرب خزامى.
هل فاعل (يتسع) يعود على الوجه أم على الأحد؟
إذا كان الأمر متعلقا بالوجه فهو إعلان عن المساء ،النهاية.حيث اجتفاف الأحد ومصادرته لخضرة أيام الوجه. قد يتعلق الأمر بالانتظار في إطار استعادة التجربة ذاتها لأنثى السندباد في شعر السياب: (رحل النهار). وإذا كان ذلك كذلك فهي إشارة إلى اتحاد تجربة الكتابة لدى عُلية الإدريسي في هذين المقطعين المخصوصين على الصفحة 38و38 معكوسة، وكأنها تكتب سيمفونية.
للخزامى مجدها في الحواس؛ فكل صفات الحياة والجمال والمتعة تحوزها... ومصادرتها من قبل يوم الأحد إعلان حقيقي عن إفلاس الوجود.إن الأحد هنا يصبح مرادفا للخريف ومنتجا لدلالات الانقضاء والأفول...
وعليه، فإن الذات تصبح مركز القول الشعري وبؤرته، بغية ترجمة العلاقة مع العالم والوعي به، تكون مبنية على الدهشة وعلى الاحتجاج في الآن نفسه؛دهشة متأكدة عن طريق الانتباه لتفاصيله المفعمة بالحياة وبكل ما تستلذه الحواس،واحتجاج على فعل مصادرته لكل تلك المتعةحيث الانسان، وجوديا، في حالة عراك أبدي يجاهد من أجل أن يكون. لكن هيهات فكل ما يشرطنا به رادع وماحق ومحمّل بكل ما يدل على الظلال الجارفة، على الرحيل وعلى المساء...
معلوم أن الشعريحقق خرقه بمقومات بلاغية تخلق له متخيله وصوره الشعرية، وأخرى مسترفدة مما يؤسس لكونية النص عن طريق تمتيعه بكيمياء ثقافة إنسانية تحصلت من التوظيفات الرمزية والأسطورية، وبالتالي استغلال هذه الأخيرة باعتبار مرجعيتها كونية للترميز إلى الخصوصية وإلى الذات تحقق التقاطع والتصادي وتبتعد أ كثرعن الإغتراب. الشيء الذي يجعل الدفء والإحساس في الشعر يكون إنسانيا أو ألا يكون...
كثيرة هي التعابير "المجنونة"في شعر علية الإدريسي، بمعنى الحالمة. هو كذلك ما دام الجنون يعني الجهربالحلم وبالمكبوت... وتجاوزأي شكل من الإلغاء، وكأن الشعر والحلم هما حالة من الانوجاد الحقيقي، كتجلي مبني على مبدأ التفاعل والتواشج بين الذات والموضوع. في النموذج ذاته يوجد،إذن، الكثير من التعابير المتاخمة للجنون، والمصوغة بماء الحس السوريالي، وكأن إيداع البابين تحت رحمة ورقّة الريشة واللون لكل من س.دالي وف.غوخ لم يكن اعتباطا، وإنما أريد به تمتيع النص بالحس ذاته ليرتاد الخيال المجنّح، ويتحقق كإمكان فيه الاندلال الذي يترع على الأفق ويستمر في الوجود؛ ذلك أنه من حسنات الخرق وأفضاله باعتباره جمعا حقيقيا بين أعناق المتنافرات كالاستعارة على حد توصيف عبد القاهر الجرجاني، هو ضمان حقيقي للنص في بعده" البوليسيمي ". وبالتالي تمتيعه بقراءات متعددة وبإمكانية للتداول في أكثر من نطاق جغرافي وتاريخي... وحينما اعتمدت الشاعرة علية الإدريسي هذه الطاقة فإنها فتّقت شعريتها لترتاد ذرى اللجين شمسه تشرق من هناك، من ذاك الأفق البعيد. وكأنها تعمل على تقديم البديل لغروب شمس الدهماء وخرفان القطيع بشمس تشعّ خيوطها الواعدة بالحرارة والدفء والجمال من ثنايا الديوان ومن تلافيف عباراته وإمكاناته الصياغية ،ولنستمتع الآن بالصياغات التالية:
(أقدام البحر،اللحظة برتقالة، أدخّن سحابة، حفيدة هذا الغرق أنا،طحن الريح، قليل من الظل يحمي إسمي، الحديقة تسمعني وتخجل من عصافيرها، ليتني تأخّرت عن نفسي بدقيقة واحدة، فاتني أن أكون الشجرة،أنا الخريف في شارع الرباط،صديقتي الشجرة تلفّ شعرها بمنديل جدتي الأبيض، تعبر الرصيف من خلف نفق النجوم، ملح البحر يغرق خارج غابته بقميص الحلم، توسّدت شجرة الصفصاف،صفصافة لاتثرثر، عين مفتوحة تعبث بالشجر، أنا ورق أصفر،أحتطب روحا واحدة،حوذي نسي ظلي على ميكروفون،وحدي أطالعني،أسحبني إلى الطاولة،أمنحني دمية،الخريف غارق في الباب،الخريف سمعته من النافذة،تقول الحقيقة،أنا القطار، أفكر في عصيان هذا الحلم، أمضي كالساموراي، أنبت لي ريشا، أوقد الطين من ضحكي، النزيف شاهدة قبر، وجهي يستظل بي، يلعب بالشمس، سأخرج بلا رأس، درج يعصر الورد الأصفر، تمثال يجرح الريح، حافّة تفتح سقفا، سقف لاينتحر، تجفيف الضباب، إشاعة قديمة، تجميع الرذاذ في صورة تبيع نعناعا، أفكر بنجر معطف ضيق، أفكر أن أكنسني، الضفدعة ترسم حفنة ضوء، تنتحب الصفصافة العجوز، قد أشبه الريح (...) كي أرقص معك، قد أعكس تساقطي (...) كي أشبهك، كظل أعمى أسحب الكأس، أشرب المدينة، رياحي لا تكره صداها، رياحي تتمرّن على الحياة، أيتها الطريق، دعي الطريق للطريق، ارسمي عبورك كي أغفو في الهواء، شجرا...ينتظر... كي يلفظني، أجرّظلّي، أبقى في يدي، أكسر الورقة، سأنجب لك ما تيسّر من نجوم، غروبي ملّه التدلّي، أفرش...مياهي، لا ثلج أحمر لي... الوقت ملعب جائع، أغادر نزيفي...أرى وجهي خلف وجهي،لا بد لي من خطأ يحذرني حين الرقص قبيل بزوغ الشمس بقبلتين، أكون طفلا لا يتسع لجنازته، نبضي يتساقط، الصفصافة العجوز لم تمسح وجهي، أدغدغ رحمها بحكايا من شقوق، تسكع الحشائش، حذائي أحمر مربوط بظلّي، الورقة الصفراء تعزف حدادها،نحن نقشر الريح، وهذا الظلام ألفّه، دراجتي مخمورة، رائحتي تمثال من خريف، رائحتي تنقر شجرة الشمس... تتقدم الريح بجرح نافر، موتي يأخذه المطر.)

تعليق عبر الفيس بوك