جريمة الرشوة (2-2)

د. أحمد العجمي

استكمالا لما سبق وذكرناه في جريمة الرشوة، نوضح في الجزء الثاني من المقال مفهوم الاختصاص. والاختصاص يعني الصلاحية للقيام بالعمل، ومناط هذه الصلاحية هو اعتراف المشرع بصحة هذا العمل، ولم يتطلب اختصاص الموظف المرتشي وحده بكل العمل، بل يكفي أن يكون له في العمل نصيب من الاختصاص يسمح له بتنفيذ الغرض من الرشوة، وتطبيقاً لذلك فإنَّ تقديم المال إلى أمين سر يسعى لتأجيل النظر في دعوى معروضة على المحكمة، يعد رشوة، رغم أن التأجيل من اختصاص القاضي دون أمين السر؛ لأن علاقة أمين السر بالقاضي تجعل في وسعه أن يؤثر عليه بما يقدمه من أسباب تبرر التأجيل.

الزعم بالاختصاص الفعلي ومجرد الزعم به فالموظف بذلك يجمع بين الاتجار في الوظيفة والاحتيال على الناس ببعض الحالات، ومن ثم فهو لا يقل في الإجرام إن لم يزد على الموظف الذي يجر في أعمال يختص بها فعلاً، ويكفي في الزعم بالاختصاص، فلا يشترط تدعيمه بمظاهر خارجية؛ فمجرد إبداء الموظف استعداده للقيام بالعمل الذي لا يدخل في اختصاصه يفيد ضمناً زعمه ذلك الاختصاص، ولا عبرة في ذلك باعتقاد المجني عليه.

تتحق جريمة الرشوة ولو خرج العمل عن اختصاص الموظف بشرط أن يعتقد خطأ أنه من أعمال الوظيفة، علة ذلك أن الموظف الذي يعتقد خطأ اختصاصه ويتاجر في العمل الذي اعتقد أنه مختص به هو من الناحية الشخصية خطر على نزاهة الوظيفة العامة، فقد انصرفت نيته إلى الاتجار فيه، وإذا كان المشرع قد حصر حالات الرشوة في الاختصاص الفعلي في بعض الحالات والزعم به والاعتقاد الخاطئ؛ فمؤدى ذلك لا قيام للرشوة إذا كان الموظف غير مُختص ويعلم ذلك ولم يزعم اختصاصه، لكن صاحب الحاجة توهم اختصاص ذلك الموظف فتقدم إليه بالعطية أو الوعد فقبله.

ويستوي أن يكون العمل إيجابيًّا أو بإعطاء الموظف الإداري ترخيصاً نظير ذلك للغير.

وقد يكون العمل امتناعاً كتقاضي مأمور الضبط القضائي عطية لكي لا يُحرر محضرراً من أجل جريمة، ويستوي أن يكون العمل حقًّا أو غير حق، وعليه تتحقق عناصر الإخلال بواجبات الوظيفة يتقاضى الموظف الرشوة لكي يجري تصرفاً على الوجه المخالف لواجبات الوظيفة.

تنفيذ العمل الوظيفي: لا يجعل المشرِّع من أركان الرشوة أداء الموظف العمل الوظيفي الذي وعد به؛ فالرشوة تتوافر أركانها ولو أخل الموظف بوعده فلم يحقق لصاحب الحاجة مصلحته، بل وتصرف على نقيضها، كما تتوافر أركان الرشوة إذا كان الموظف يخادع صاحب الحاجة منذ البداية بعدم القيام بالعمل الذي يبتغيه ذلك أنه طالما عرض الموظف عمله الوظيفي نظير المقابل الذي يطلبه فقد جعله سلعة وشوه سمعة الدولة وأخل بالثقة في نزاهة أعمالها؛ باعتبار الطلب هو تعبير عن إرادة منفردة من جانب الموظف ومتجهة إلى الحصول على مقابل نظير أداء العمل الوظيفي، وجعل القانون من مجرد طلب الرشوة من الموظف جريمة تامة ولو لم يستجِب له صاحب الحاجة؛ لأن الموظف بهذا الطلب يكون قد قارف ما يجرمه القانون، وهو إنزال الوظيفة منزلة السلعة، يتاجر بها، وقد ساوى المشرع بين طلب الموظف المقابل لنفسه وطلبه لغيره؛ فالموظف الذي يطلب الرشوة لموظف آخر يعد فاعلاً للرشوة وليس مجرد شريك فيها.

القبول: ينصرف القبول إلى أخذ المقابل المادي أي التناول الفوري المعجل لها إذ العادة أن المرتشي يقتضي ثمن اتجاره بوظيفته ماديًّا، وهو ما تعبر عنه القوانين بفعل الأخذ وهو ما يعرف بالرشوة.

وقد ينصرف القبول إلى إرادة متجهة إلى تلقى المقابل في المستقبل نظير القيام بالعمل الوظيفي، والقبول في جوهره إرادة ينبغي أن تكون جادة وصحيحة، ويطلق على القبول في هذه الحالة الرشوة اللاحقة.

مقابل الرشوة: يكون من قبيل الوعد أو العطية كل فائدة يحصل عليها المرتشي أو الشخص الذي عينه لذلك أو علم به ووافق عليه أيًّا كان اسمها أو نوعها، وسواء كانت هذه الفائدة مادية أو غير مادية.

قد يكون مقابل الرشوة نقوداً أو ملابس أو سداد دين ببيع الراشي للمرتشي مالاً بثمن بخس، أو يشتري منه مالاً بثمن باهظ .

القصد الجنائي في الرشوة: يقوم هذا القصد على عنصري العلم والإراد، وفق أحكام المواد فيجب أن يعلم المرتشي بتوافر أركان الجريمة جميعاً فيعلم أنه موظف عام أو من في حكمه، ويعلم أنه مختص بالعمل المطلوب منه، ويجب أن يعلم بالمقابل الذي يقدم إليه، وأنه نظير العمل الوظيفي أي أن تكون واضحة في نفسيته الصلة بين المقابل والعمل.

ويتوافر القصد الجنائي في الرشوة بمجرد علم المرتشي عند طلب أو قبول الوعد أو العطية أو الفائدة أنه يفعل هذا لقاء القيام بعمل أو الامتناع عن عمل من أعمال الوظيفة أو الإخلال بواجباته، وأنه ثمن لاتجاره بوظيفته أو استغلالها، ويستحق المرتشي للعقاب حتى لو كان يقصد عدم أداء العمل أو عدم الامتناع عنه بدلالة المادة 78 ج.ع توافر عناصر الجريمة من إرادة وفعل مادي وأعمال المادة 80 النية الجرمية في ارتكاب الجريمة...إلخ.

الإعفاء من العقاب: عِلة الإعفاء أن الرشوة جريمة تتصف بالسرية ويحاط ارتكابها بالكتمان، ومن ثم كان جهد السلطات العامة في تحقيقها وتعقب مرتكبيها ومحاكمتهم وإقامة الدليل عليهم أمراً عسيراً، والإبلاغ عن الجريمة خدمة يستحق أن يكأفا عليها بالإعفاء، أما عدم استبعاد المرتشي من نطاق الإعفاء فهو مظهر لتشدد المشرع إزاءه، وهو تشدد يبرره كونه أمعن إجراماً من الراشي والوسيط لأنه موظف خائن للثقة التي اودعت فيه .

وننوه بأن مسؤولية الجهات الرسمية وجهاز الرقابة المالية للدولة في ظل الأوضاع الاقتصادية والإحباط الذي يصاب به الموظف العام بالقطاعات المدنية، دون العسكرية، من انعدام الحوافز، والترقيات، والمكافآت، وخوفاً من اندفاع بعض الموظفين وحاجتهم للمال بالاتجار بالوظيفة إيجاد الوسائل البديلة التي ترفع من كفاءة الموظف، وكذلك إيجاد العميل السري بالجهات الحكومية للكشف عن المخالفات التي تقع من بعض ضعاف النفوس، ويتسببون بإلحاق أبلغ الخسائر بهيبة الدولة والمال العام وثقة المجتمع.

 

* محامٍ وخبير قانوني

تعليق عبر الفيس بوك