سَلَفِيٌ بِـ"مَئزرٍ شَرْعِيّ" و"حَدَاثِيّ بربْطَةِ عُنُق"

سهى عبود - سوريا


حياة الوحدة كحياة الصحراء، تعلمك التحسس، التجسس والتوجس، فأنت تراقب السماء وتقلباتها، والكثبان وتموجاتها، والهضاب وتغيراتها. تحسّس النسيم، وتعرف أي منقلب سيأخذ الريح، فتستكنه العواصف قبل أن تحدث. وتستبق الرياح قبل أن تهب. أحاسيس أهل الصحراء، بل عفوا أهل الوحدة مرهفة، يرون ما لا يراه الآخرون. ويسمعون ما لا يسمعون.
لقد صاغتهم صحراء الوحدة على هواها. فركبوا أمواجها، وطوعوا ورمالها، فسكنوها، غير مبالين برعونتها وجبروتها.. وعلى المنوال نفسه سكان الجليد وهم كذلك سكان الوحدة والعزلة..
خلاصة القول: الإنسان ابن بيئته..
علمتني الوحدة أن أراقب كل ما أرى. أتحسس في براءة على خصوصيات مجتمعنا الشرقيّ، وأستنتج ما يضمره أكثرية نُخبه، دون الحديث عن العامة، فأواجهه بما يظهرون، بعد تعرية تضاريس أفكارهم الشاهقة.. وأغوص بين مدّ التحرر الذي يتبجحون به ليل نهار، وجزر ثقافة الخنوع واستعباد المرأة بموروث يجاهرون بحربه، وخلسة يمارسونه دون خجل ووجل.. ممارسات وأفعال تخرجني من عالم الصقيع والصحراء بقصص ومقالات تملأ عليّ فراغي وتؤنس وحدتي..
فقهاء جدد، ”لايت” بِبدلٍ عصريّة، وربطات عنق زُركشتْ بدماء وروح المرأة، تلك المرأة التي جعلوا منها ضرع الحياة وحطب حروبهم وغنيمة استغلالهم..
“دواعش” حداثيون: يتقنون فن العيش. يتناوبون على أبيات الشعر وكؤوس النبيذ. يرقصون على أنغام الجسد وأيديهم تجتر سبحة فقيه.. وألسنتهم تردد ”كورال” الحلال والحرام.. أمنيتهم شغف حياة الغرب، وقانون مكتوب أو عرفي يُخضع المرأة.. تلك المرأة التي ستظل عورةً وناقصة عقلٍ ودين ومصنعًا للإنجاب ومكبًّا لتفريغ نفايات خبثهم..
يرسلون بناتهم للمدرسة، ويرفعون شعار: عِزّ الرجل ذراعه، وعِزّ المرأة بيتها.. فتعليمها إذن يوجهونه إلى أن تكنس، وتخبز، وتطبخ، وتنظف، حتى تصبح ”فحلة”..
عندما تتعلم المرأة وتطالب بمساواة حقيقية، ينتصبون كعلامة "قِف"، مكتوب عليها: ”هذا الجو مالو إلْنا”..
غرابة المشهد، تكتمل عندهم برقِّيها في المجتمع بالتوالد، كالبهائم تتوالد.. عقليات شرقيّة متحجرة، ابتليت، وتعبت الدول الشرقية في تفريخها هنا وهناك وتقوم بمحاربة الإهارب على طول البلدان وعرضها، وتناست من يقطنون بيننا وأغلبهم يردد بصيغة أو أخرى: يجب علينا أن ننقذ المرأة من ”ظلام الجهل”.. فيسارعون إلى حرث الطريق بألغام المنع، والنهر، والتخويف، والتهديد، ومرات كثيرة بالضرب والسَّحل، فضلا عن السبّ والقذف فهي عملة يومية لا يخلو واقعنا اليومي منها.. إن لم أقل كالهواء تستنشقفه المرأة في شرقنا...
نعم.. كثيرات تعلمن، تخرجن.. منهن وزيرات، برلمانيات، طبيبات، مهندسات، قاضيات، اقتصاديات، معلمات، صحفيات.. وكذا شاعرات وحالمات.. لكن كم نسبة هؤلاء؟.. هن واجهة تخفي وراءها ملايين من الأميات المهمشات، المغتصبات جهرا باسم الدين تارة وباسم العرف تارة أخرى.. هؤلاء النسوة، هن، لافتة نلوح بها في مواجهة الغرب لأهداف سياسية لا غير.. فالنادر لا حكم له.. صيغة وردت في مراجع أصحاب الوأد، كانوا بربطة عنق غريبة أو مأزر حلال أو لحية شرعية.. أو بسوطِ القانون ”المدنيّ”..
نعم، المجتمع بحاجة إلى جميع أفراده من نساء ورجال، ونحن نخوض حربا ضروسا ضد الإرهاب، والمجتمع الذي لا تتعلم فيه المرأة وتعيش حرية مطلقة، كالشخص الأعرج الذي يسير برجل واحدة، ويُورث العادة ”المحمودة”.. وحبل المشنقة الكفر والإلحاد بشرع الله، يتحسس كل الرقاب الرافضة..
عقدة الرجل الشرقي، وعلى وجه الدقة العربيّ ”الفحل”، هو أنه يخاف المرأة. في الذاكرة الإنسانية. المرأة هي ذلك الكائن الذي لولاه لما كان حياة الرجل، تعلقت بوجودها.
لسنين، درج على خطاها، طالبا رضاها، ملتمسا حنانا غير حنانها، بين أحضان غير أحضانها. بين خوف ورجاء، خوف من الصد والهجران، ورجاء في القرب والاطمئنان. وبعد ذلك، حينما شاخ وهرم التمس العطف والحنان من بناته، خائفا من بعدهن وجفائهن. يعتم الرجل على خوفه هذا بالهجوم. فأنجع مواجهة الخائف الهجوم. ويتخذ لفكرته هاته استراتيجية محكمة:
فبما أن له القوامة على المرأة، فما عليه إلا أن يبقي هذا العفريت في قمقم. أن يقنعها بدنيّويتها، أن يجوعها، حتى تتيقن أنها بدونه لن تعيش. يغسل دماغها، ويخط فيه أفضليته عليها. وأن الله خلقها من أجل أن تعتني به، تحمل أطفاله، وتسهر على تربيتهم حتى يكبروا لا غير. يجهلها، ويطمس بصرها حتى لا ترى إلا ما يريد لها أن ترى. تسمع بأذنيه، وتتكلم بفمه.  هي في لغتنا ومفهومنا ”وِلِيّة” أي مضافة لأبيها أولا، ثم زوجها، ثم لابنها بعد موت زوجها.. وإن كانت عازبًا أو ”عانسًا” - دون أب أو به - فأخوتها مهما كانت أعمارهم..
نعم.. صورة قاتمة للرجل المشرقي، وللمجتمع ”الإنساني” العربيّ ككل، والذي ابتلينا بعشقه والعيش بين حناياه..
المرأة في الغرب/الجنة - التي سيلتحق بها كل الرجال العرب المهاجرون والنازحون والفارون، حالما فُتحت لهم الحدود، ويتركون نساءهم مع أول فرصة جواز سفر وتأشيرة - لم تتحرر مما كانت عليه إلا بعد الحرب العالمية الثانية. حينما خرج الرجال إلى ساحة القتال، وبقيت النساء مع الأطفال، في المدن والقرى فاضطررن للقيام بجميع الأعمال، التي اختص بها الرجال إلى ذلك التاريخ. واكتشفن أنهن قادرات على القيام بجميع الأعمال، التي كن يظنن أنها في غير متناولهن، فأكسبهن ذلك ثقة بأنفسهن. وبعد نهاية الحرب، لم يعدن إلى البيوت، بل اكتسحن جميع المرافق في المجتمع، واكتسبن بذلك استقلالية مادية، رفعت من المستوى المعيشي لأسرهن، وللمجتمع ككل. فكل رقي اجتماعي أساسه الحاجة، وهدفه المادة. وكل تحرر للمرأة لا يمكن أن يحصل إلا بالتحرر المادي..
الطامة الكبرى عندنا في بلاد الشرق الأوسط وشبه الحرب الطاحنة كالغرب وقتها، وخروج المرأة للعمل واستقلال بعضهن المادي... هي عقلية المرأة الشرقية المشبعة والغارقة في الموروث.. لا تريد أن تستغل الفرصة للتحرر والضغظ في اتجاه إقرار قوانين إنسانية تعزِّز من مكانتها والحرب على الإرهاب والاسترقاق الجديد/القديم على أشدها.. فالغنيمة أولا هي المرأة قبل الموارد الطبيعية..
صحيح، هناك قوانين حالية تركها الرجل وترك معه سفراءه يسهرون عليها، وعلى رأسهم، كما أشرت حداثيون دواعش بربطة عنق من ماركات عالمية، بعضهم يكتب الشعر والغزل وكل بحور الحرية والإبداع، وينهى أخته الحالمة بياسمين الحياة والعشق، على ذكر كلمة (فخذ) في أحد منشورتها على صفحة الفضاء الأزرق مثلا، ويعتبرها إيحاءً جنسيًا ويرغمها على حذف نص ابداعي، هو أقرب إلى الخيال، وهو العالم والعارف أن كل ما يُكتب ليس بالضرورة، يعبِّر عن رأي وقناعة كاتبه.. ليقول لها والتهديد واضح وصريح:
- هذا الجو "مالو إلنا".. "ليش بتحطي القارئ بجو العري والاستحمام وتسمحي للناس بالتخيل".. "أنت واحدة ما بتحترمي نفسك".. قلتيلي فخذاي مو هيك.. "أنا حا وريك شغلك إن ما حذفتي البوست التافه".. إذن الوأد أنواااع.. و حفار القبور.. حفار مهما ارتدى من ملبس..

تعليق عبر الفيس بوك