الحنين للركام

علي كفيتان

تتملَّك الإنسان في أحايين كثيرة نزعات الحنين الفطري لركام الأشياء والأماكن التي وجد فيها، مهما كانت الظروف التي عاشها هناك، وتظل مرارة التجربة غائرة في حنايا النفس، خاصةً الشعور بالفقر والجهل والمرض، وفي لحظات التغيير تجد ذلك الفطري يركض مسرعا خلف أضواء وبريق الواقع الجديد الأخاذ مزهواً بالمنجزات والاختراعات التي تبهر النفس وتسمو بها إلى عالم آخر.

في زمن الغابة لا يهم من تكون، الأهم هو الحصول على الغذاء بأي شكل من الأشكال لكي تبقى على قيد الحياة، ويصبح ذلك الكوخ المخروطي عديم التهوية، أو ذاك الكهف المظلم، أو تلك الخيمة البالية ضرباً من الرفاهية غير المعتادة، تحدثنا الروايات عن القهر القصري وعن صولات وجولات النهب التي لا تستثني أحداً من الناس أو الدواب، في ذلك الوقت وفي قاموس ذلك الإنسان القديم نصف العاري تصبح تلك الصفات محمودة يتفاخرون بها ويروونها جيلا بعد جيل، لكن الغريب في الأمر أن تعود أجيال القرن الواحد والعشرين إلى ذلك الركام تاركةً خلفها بريق الحضارة الإنسانية الجديدة!

دأب القادمون الجدد على التقدم بحياء ورهبة لا تخلو من الإجلال نحو المدينة بكل ميزاتها وصارعوا لكي يشكلوا رقماً فيها، وهذا الشعور بالإجلال للحياة الحضارية المنظمة دفعهم لمنجزات كثيرة فتفوقوا علمياً ولسان حال كل واحد منهم يقول: أنا الذي أتيت وحدي، لا أملك شيئا غير كبريائي، وذلك الكوخ المهترئ على رؤوس ساكنيه، لا بد من تضحيات جديدة تمنح عقلي التطور والنمو والتأقلم، نبغ الناجون منهم وحطموا أعلى الدرجات وأصبحوا يرتعون في أحضان المدينة الفسيحة بعقول بكر لا تتقن شيئا غير الذي تعلموه في صفوف المدارس وأروقة الجامعات يجيدون حل مسائل الرياضيات، ومعادلات الكيمياء المعقدة، والاصطفاف في طوابير منظمة، لكنهم ما زالوا يرسبون في بقية المواد.

خرج المجدد المزعوم من صومعته ونادى في الناس ضحى، أخذهم معه إلى بقايا الأشياء المحطمة في الكهوف، انشغل أحدهم بالتنقيب عن نقوش أجداده وحضارتهم المفقودة يلملمها بعناية وينسج حولها خيالاته الواسعة، والآخر يتمخطر بخيلاء الحصان الجامح في مرج أخضر بيده سيف ذي يزن، وبالأخرى بندقية عمر المختار، لكنهم لم يعلما بأن الميت لا يشفع للحي، وأن زمن الثورات قد ولى مع رجال ليسوا من هذا الطراز الهزلي.

لم تجدِ نفعاً كل الإبر والمضادات التي منحت لكبح جين البدائية المزروع في نخاع هذا المخلوق ربما هو بحاجة لعلاج من نوع آخر كزرع نخاع جديد من متبرع لا يمت له بصلة، لكن هل العلم اكتشف هذا الآخر؟ الى أن تحين تلك الفرصة النادرة سيظل يرقص في جنبات الوادي ولن يتراجع عن خطف النعاج الوادعة من كل حدب وصوب وسوف يقنعها بأنه الراعي الأمين من أنياب الذئاب الشرسة، سيلتهمها هو الواحدة تلو الأخرى على مائدته المتخمة، سيحرص على إطعامها جيداً لأنه لا يستسيغ اللحم الهزيل.  

الزمن لا يمتلك مسطرة، ولا يهمه حملها لأنه لن يعود لقياس ما مضى، ولن يتعب نفسه كذلك باصطحاب مقاييس للأوزان لأن وزن الماضي أمر لم يعد واقعا اليوم، لكن صاحبنا هذا رجع لذلك الركام وأخذ منه مغرفا خشبيا، وإناء من فخار، وقربة من جلد الماعز، وخرج ليصطاد بقوسه وسهمه.

alikafetan@gmail.com