خالد بن سعيد الكندي - مسقط
في البدء من المهم الإشارة إلى فوز بلدية مسقط بجائزة منظمة المدن العربية في تجميل المدن عام 1994، أي قبل ثلاثة وعشرين عامًا. حيث كانت مسقط يومئذ لافتة لمعايير الجمال حتى استحقت بجدارة تلك الجائزة الدولية، إلى جانب جائزتين أخريين الأولى في المعمار والثانية في التخضير والتشجير حصلت عليهما من المنظمة نفسها وفي العام ذاته.
لم يكن ذلك الحصاد المشرّف مجاملة لمسقط؛ بل كان عن قناعة وامتنان وما كان لمسقط الجميلة والمدينة الوادعة أن يلمع نجمها في سماء المدن العربية، إلا على خلفية مجهودات مضنية وإصرار على تحقيق ذلك المنجز الرائع والمتميز، وهو العامل المشترك بين المؤسسة الحكومية ممثلة في بلدية مسقط والمجتمع المدينيّ، فالحصاد نتاج علاقة ناجحة بين هذين الطرفين المهمين.
ولا يتحقق النجاح في علاقة تفاعلية دون عدالة متكافئة بين أطرافها، لذلك كانت تطلعات كل طرف إلى حقوق الطرف الآخر مظنة التقدم نحو أهداف عديدة ومنجزات فريدة، ما يزال وهج بريقها مضيئًا في أرجاء مسقط حتى اليوم.
وكعادة أي نجاح وشأن الناجحين غالباً، فإن ثمة تحديات يمكن أن نستل منها مقاربة نظرية في تقرير مبدأ العدالة المدنية، وحق المجتمع في مناخ صحي وآمن بعيدًا عن مكدرات البراجماتية والنفعيات الوصولية، التي لا تعير اهتمامًا لغير القيمة النفعية في سبيل الفوز بمصالحها، وبعيداً عن المتاهات الفلسفية في التنظير، فإن المراقب للمشهد العام يتلمس ببداهة تامة الحاجة الملحة في مراجعة العلاقة بين المؤسسة والمجتمع، وأن يكون النظر في حق المجتمع نظراً شاملاً يستغرق الاعتبارات كافة دون استثناء، ولأن الأفراد يمثلون الركن الأساس في المجتمع، فهذا يستلزم معه النظر في استحقاقاته جميعها.
واستحقاقات الفرد في مدينته على أيَّة حال كثيرة ولا يمكن أن يعالجها مقال واحد، لكنني أتعرض في هذا المقام إلى ظاهرة تمدد الأنشطة التجارية وزحفها على الأحياء والمناطق السكنية بشكل لافت، فابتلعت حالة الهدوء والسكينة التي ينشدها أي فرد أشرقت عليه شمس يوم جديد ليجد جاره قد تحول إلى مؤسسة تجارية تتزاحم عليها المركبات والعملاء ذهابًا وإيابًا، فصار الهدوء مطلبًا عزيزًا عليه، رغم كون المباني ذات استخدام سكني وفق المستندات الرسمية الصادرة من جهات الاختصاص، والتي على إثرها تكبد الفرد شراء وبناء تلك الأراضي بعد تقييمها تقييمًا عادلاً آخذًا في الاعتبار احتياجاته كفرد باحث عن إطار معيشي صحي ومستقر.
إن أبسط دراسة؛ كافية لتشير إلى عدة مآخذ تستحق الوقوف عندها وتحليلها، منها ما هو متعلق باستدامة التخطيط الحضريّ عالي الأداء كإطار معيشي للسكان يشمل العديد من الاعتبارات الهامة، وما يتفرع عنه كالجانب المروري المتعلق بالمداخل والمخارج وكفاية مواقف المركبات وطول الطرق ومعدلات السرعة إلى غير ذلك من متطلبات السلامة المرورية، والجانب الأمني المتعلق بخفض معدلات الجريمة التي يكون وجود العمال والموظفين في الأحياء السكنية عاملاً وجيهًا لها، والجانب الاجتماعي المتعلق بخلق بيئة صحية للسكان وضامنة لعلاقات ناجحة وفاعلة تنعكس إيجابًا على القاعدة الوطنية للإنتاج والتي يقتسم المجتمع مع المؤسسة الرسمية عوامل نجاحها وتقدمها.
وهذا ما دفع بمنظمة المدن العربية الإعلان عن إطلاق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-HABITAT والذي يتضمن الإعلان عن "فتح باب الترشح لجائزة دبي الدولية لأفضل الممارسات لتحسين ظروف المعيشة تماشيًا مع الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة"، وقد تضمن البرنامج عدة معايير جديرة بالنظر والتأمل من بينها وجود أثر واضح وملموس على تحسين نوعية حياة الناس، ووجود شراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، والتمتع باستدامة اجتماعية وثقافية واقتصادية وبيئية.
ومثل هذا الاهتمام الدولي براحة السكان وتحسين مستويات الأطر المعيشية لهم شاملاً الاعتبارات المحورية لضمانات الهدف، ومُعَبرًا بوضوح عن الأهمية المفصلية للمجتمع باعتباره المستهدف بالخدمات الحكومية.
إن النظر بموضوعية إلى تمدد ظاهرة الأنشطة التجارية في الأحياء السكنية - وقد باتت مصدر قلق وإزعاج للسكان -، من شأنه أن يحقق ضمانات العدالة في تكافؤ مُكونات المجتمع المدني في الحقوق والواجبات، دون تعدٍ على حقوق الأطراف أو تهميش لاحتياجاتها الإنسانية، ولئن كان اتباع النظام مطلب حيوي فإن التزام الجميع به يجعله أكثر حيوية وأدعى به إلى رقي المدن - وفي مقدمتها مسقط - واسترداد قدراتها التنافسية على حصاد دولي جديد، تُصافح به مدينة مسقط إنجازاتها التي ما فتئت تترى