علم إدارة الأزمات.. ضرورة يفرضها العصر

د. عيسى الصوافي - سلطنة عُمان
دكتوراه في إدارة الأزمات


ليس بخاف عن المتتبع لسير الظواهر الاجتماعية سيما السياسية منها، ما للأزمات بكل أنواعها من دور في تاريخ الشعوب والمجتمعات سواء بالنسبة لتطورها أو تقهقرها، ومجرد القيام بقراءة متأنية لدور الأزمات بشكل عام، يخلص بنا إلى معاينة حقيقة الفرضية التي تقوم على ثبات وصلابة المجتمعات التي تتكلف فيها فرق متخصصة وكفؤة بالتعامل مع الأزمات، حيث انها تصبح ممتلكة للقدرة على تخطي الصعوبات والتطور، أكثر من تلك التي انتهجت أسلوباً مغايراً اعتمد الارتجال والتصرف بطرق تلقائية غير مدروسة حيال بؤر التوتر، مما ينتهي بها حتماً إلى التفكك والضعف.
ويكفي الخوض في ثنايا الأحداث الحاسمة في تاريخ الشعوب لنجد أن في باطنها محطات أفرزتها الأزمات. فبين كل حلقة هناك أزمة تحرك الوجدان وتشعل الصراع وتحفز الإبداع فتفتح الأبواب لفضاءات جديدة فسيحة غالباً ما تنتهي بدورها بأزمة تدشن انطلاق حلقة جديدة. على أن شروط النمو وتسارع وتيرته في العقود الأخيرة بتقاطع مع الأزمات المتكررة وغير المتوقعة، استلزمت تبني حلول غالباً ما تبقى مؤقتة، الأمر الذي ولد الوعي ببزوغ أفكار وقناعات جديدة ترى ضرورة وضع أسس أبحاث ودراسات متخصصة في تحليل الأزمات وضبط تداعياتها للخروج منها بأقل التكاليف، بل البحث عن حتى كيفية تجنبها إن أمكن ذلك...
هكذا، وأمام تعدد طرق فهم جزئيات ودقائق ومسافا المخاطر والتهديدات ، تناسبت النقاشات واختلفت وجهات النظر، ليجد المهتمون أنفسهم أمام خانات كبيرة من المعطيات أوصلت إلى التسليم بقيام علم قائم بذاته متعدد المداخل والمنافذ ومتميز الخلاصات.
إن علم إدارة الأزمات غدا علماً عميق الأغوار يشمل كافة تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وهي كلها علوم تعتمد آليات منهجية متنوعة متباينة ومناهج تحليل مختلفة لتشريح الظواهر موضوع البحث وتحديد أبعادها وحدودها، منطلقة في ذلك من المفاهيم المتعددة الأبعاد كمفهوم المخاطر على سبيل المثال الذي له تيبولوجيات كثيرة وأصناف تصب في ميادين اقتصادية، سياسية، مالية، أمنية... تصعب معه معرفة معالم الصواب والخطأ، الحقيقة والتيهان، فنحن مراراً بل في جل الأحيان تصادفنا حقائق متعددة ونسبية في الصواب (...)، الأمر الذي يفرض علينا الحذر والتريث والتدقيق حتى لا نسقط في فخ الاستخفاف بالمخاطر ونصطدم بالتسرع وتلقي الخسائر بسبب خطأ التقدير في الحسابات.
إن هذا الاحتمال يفرض علينا دون مجادلة البحث والعثور على صيغ تدبيرية تنقذنا من ملابسات أية مخاطر خاطئة.
على العموم، أصبحت الأزمات والمخاطر سمة من سمات العصر، انتشر وشاعت فغدت بمثابة ضريبة من الضرائب يدفعها العالم مكرهاً، مقابل الاستمرار في التطور. هكذا تحول المجتمع الإنساني برمته من مجتمع للأمن النسبي إلى مجتمع تحضر في التوترات والتي تعد نتاجاً خالصاً لرجات الصدمات والأزمات.
إن كلمة الأزمة في اللغة العربية، أزمة (أزمة وأزما ز أزوما)، اشتد ـ والأزمة: الشدة والضيق، والقحط وجمعها إزم وأزم وأزمات وأوزام. في إطاره اللغوي يحمل هذا المصطلح دلالة الإصابة بالشدة والضيق وطغيانهما، وأحكاما على الوضع المادي والمعنوي في الحال التي تصيبها (...).
كما أن للأزمة مفاهيم كثيرة شائعة طرحها جل الباحثون في أدبيات شؤون إدارة الأزمات، فهي من جانب موقف معقد ومتشابك يتضمن درجة عالية من السخونة وتتضارب في حضنه مجموعة من العناصر المتناقضة بصورة عالية، فتزداد درجة التعقيد والتضارب بتصاعد الأزمة وتفاعل صناع القرار معها ومع تداعياتها وانعكاساتها المستقبلية.
كذلك هي تشكل حالة من عدم الاستقرار تتضمن إشارات وتنبؤات بحدوث تغيرات حاسمة قريبة قد تكون نتائجها غير مرغوب فيها على الإطلاق، وقد تكون هذه النتائج إيجابية في أحيان أخرى ومرغوب فيها بدرجة كبيرة.
وتظهر الأزمة أيضاً كموقف تحذيري يتضمن مجموعة من المخاطر أهمها مخاطرة تصاعد شدة الموقف، ومخاطرة التعرض للرقابة الصارمة من وسائل الإعلام أو الحكام ومخاطرة تعريض سمعة البلد.
وقد تتمثل الأزمة في مدة التغير المفاجئ التي يتطلبها تشكيل نسق جديد وبصورة كلية حيث يتسع نطاقها لتعدي المخاطر والتهديدات والصراع والحوادث وعدم الاستقرار ليضم كذلك الفرص المتاحة.
أمام توالي الأزمات وتعددها، تبنت المجموعات الإنسانية المنظمة ردود فعل وتدابير تمكنها من تجاوز هذه الأوضاع الاستثنائية وهي عبارة عن خطط مرتبة لكل الاحتمالات المرتقبة تسمى الاستراتيجية. هذا المصطلح هو من أصول إغريقية مشتقة من كلمة Strator، وتعني الجيش أمام Abos فتعني القيادة وبذا تجمع دلالته معنى فن وعلم توجيه القوات الحربية حالياً، فضلاً عن القيادات السياسية والأمنية والعسكرية، تم تبنيه كذلك من طرف ريادات تدبير الإدارة والأعمال.. لذا وبالنظر لكون الاستراتيجية تشكل مجموعة من الاختيارات مصنفة حسب الأولويات فإنها في مجال العيش الجماعي والطموح إلى سواد الطمأنينة والرخاء، تكون خطة موجهة لتحقيق أهدافها ورفع العوائق على المدى القريب والمتوسط والبعيد، حيث تعمل وتنشط القيادات وفق مراحله المسطرة وترصد له القدرات والإمكانات التي تمكن من التغلب على العوائق. واعتبارات لكون «الاستراتيجية فن حوار القوى أو حوار الإرادات« (...) فإنها تبقى أسلوباً وتخطيطاً يقوم على التدبير الحكيم ليوصل إلى الأهداف المنشودة تنمية وأمناً واستقراراً.
هكذا، حين وقوع الأزمات، تقوم الهيئة المكلفة بمواجهتها بالمبادرة إلى اتخاذ كافة الإجراءات والأنشطة والعمليات التي من شأنها تأمين إدارة موفقة للأزمة قصد السيطرة عليها، بدءاً من المسببات، مروراً إلى التصدي وانتهاء إلى مرحلة معالجة المخلفات والحد من الأضرار الناجمة عنها، إننا هنا وفي هذه الحال نكون إما النموذج الناجح لإدارة الأزمات بشتى أنواعها كوارث طبيعية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية.
وسيكون من نافلة القول، الإشارة إلى أن دول الخليج قطعت أشواطاً في هذا المضمار، فجلها يتوفر على البنيات المختصة بالتصدي للأزمات ومعظمها لا تعوزه العزيمة اللازمة للقيام بهذه الواجبات فضلا عن الإمكانيات الواسعة والوسائل والمقدرات الذاتية وكذلك الدعم الدولي إذا ما علمنا مستوى السبل المتاحة للتعرف على تجارب الدول المتقدمة وآفاق التعاون للاستفادة منها.
من هذا الباب، نقترح تسليط الضوء لفحص التجربة العمانية في مواجهة الأزمات التي اعترضتها على طول مشوارها والجهود التي بذلتها من أجل الحفاظ على بقائها وتنميتها وسلامتها.

تعليق عبر الفيس بوك