كوريا الشمالية وعقدة التاريخ والجغرافيا

 

د. يحيى أبوزكريا

منذ وجودها على الخارطة الإنسانية وجغرافية البلدان كانت كوريا الشمالية في صراع دائم مع الأقوياء ومع دول الجوار، فمملكة كوكوريو التي كانت موجودة في القسم الشمالي من كوريا شبه الجزيرة والتي كانت تقع على نهر الأمنوك كانت عرضة لغزوات متكررة من طرف الهان الذين حكموا الصين، وتمكنت مملكة كوكوريو أن تردّ كل الغزوات بل توسعّت على حساب غيرها، وأسسّت مملكة ممتدة الأطراف وأصبحت عاصمتها بيونغ يانغ العاصمة الحالية لكوريا الشمالية.

وقد قسمّت كوريا على إثر هزيمة اليابان في الحرب الكونية الثانية وكانت اليابان تحتّل كوريا في ذلك الوقت، وأصبحت بذلك كوريا كوريتان كوريا الشمالية الديموقراطية الشعبية وكوريا الجنوبية، وأصبحت الأولى تابعة للنفوذ السوفياتي السابق والثانية للمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.. وقبل أن ترتمي كوريا الشمالية في أحضان المدرسة الماركسية الاشتراكية كان شعبها يدين بمحموعة من الديانات القديمة والفلسفات التي كانت منتشرة في الصين واليايان وغيرها..

وبسبب صغر جغرافيتها ووجودها ضمن نسيج جغرافي قوي ومسيطر فقد أصبحت على الدوام عرضة للغزوات والاحتلالات والاعتداءات، ولم يعرف تاريخ كوريا الشمالية القديم والراهن استقلالا كاملا بل كانت على الدوام عرضة لتدخل الكبار في الجزر الكبيرة الأخرى المحيطة بها، وكان حكام كوريا على الدوام عرضة للقتل كما حدث مع الحكام الكوريين الذين قتلهم الجيش الياباني في حقبة تارخية بعينها.

وهذه الخلفية التاريخية هي التي أملت على المنظريّن الكوريين الشماليين أن يؤسسوا لمعادلة مفادها أنّ الراهن لا يختلف عن التاريخ، فإذا كانت كوريا عرضة دومًا للاحتلالات في السابق، فإنها اليوم عرضة أيضاً لمحاولات الطامعين وعلى رأسهم أمريكا التي يحملّها الكوريون الشماليون مسؤولية تقسيم بلادهم إثر هزيمة دول المحور.

 وهذا الخوف من الآخر المتربّص دوماً بالجغرافيا جعل الكوريين الشماليين يفكرون في الوصول إلى أسرار التقنية وعلى رأسها التقنية النووية التي تحصّن بلادهم من الأعداء الخارجيين والموجودين على مقربة من جغرافيا كوريا الشمالية. وقد أفضى هذا الإصرار المصحوب بالخوف من تكرار أحداث الماضي إلى نجاح بيوغ يانغ في إنتاج قنبلة نووية لتنضمّ بذلك إلى النادي النووي ولتوجّه رسالة إلى الذين احتلوها أو قسمّوها بالأمس أنها لم تعد كما كانت في الماضي بل يجب أن يحسب لها الآن ألف حساب، لأنّ معادلة القوة قد تغيرت وقد أصبحت كوريا الشمالية من الآن فصاعدا دولة نووية مثلها مثل الصين وأمريكا..

ولم تتحقق هذه النقلة النوويّة في كوريا الشمالية بدون حنق أمريكي كبير لأسباب عديدة منها أنّ كوريا الشمالية سياسيا وإيديولوجيا ليست محسوبة على المعسكر الأمريكي وهي بذلك قد تزعج المشروع الأمريكي في آسيا، كما ستزعج الدول الحليفة لأمريكا ككوريا الجنوبية واليابان وغيرهما ..فأمريكا التي لم تتمكن لحدّ الآن من اقتحام سور الصين العظيم وتطويع أو أمركة الجغرافيا التي تضم مليار نسمة والتي تحوز هي الأخرى على السرّ النووي، ستجد صعوبة في تطويع دولة أخرى مارقة بالتعبير الأمريكي..

وقد شرعت الإدارة الأمريكية ولحرمان كوريا الشمالية من التمتع بقوتها النووية بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على كوريا وطالبت المؤسسات المالية العملاقة والنافذة في القارات الخمس بمقاطعة بيونغ يانغ وعدم التعامل معها كخطوة أولى نحو تأليب المجتمع الدولي على كوريا الشمالية..

وكان نائب وزير الخزانة الأمريكي روبرت كيميت قد قام بزيارات متعددة إلى عواصم العالم للمطالبة بفرض الحصار على كوريا الشمالية وهو الإجرّاء الذي اعتبرته هذه الأخيرة بمثابة إعلان الحرب عليها...

ويرى المراقبون أنّ الأزمة بين واشنطن وبيونج يانج على وجه التحديد هي في بدايتها وأنّ مراحل هذه العلاقة المتأزمة ستدخل منحنيات خطيرة ومن هنا وإلى تاريخ الانتخابات الأمريكية في خريف سنة 2008 ستشهد هذه العلاقة المتأزمة الكثير من التصدعات والتي تردّ عليها بيونج يانج بأنها جاهزة لها ولسان حالها أن كوريا الشمالية اليوم غير مملكة كوكوريو بالأمس...