شرفة لرؤية الذات والعالم في (هواء...طويل الأجنحة)

قراءة في تجربة "عُلَّيَّة الإدريسيّ" (1-4)

...
...
...

الشريف أيت البشير – المغرب


يذهب "فيليب لوجون" صاحب "العقدالأوطوبيوغرافي" إلى أن المبدع يصبح كذلك حين يكرس إسميته في الإبداع مرة ثانية ؛ذلك أن الإصدار الثاني هو ما يمنحه طابع الإبداعية ويبوئه مكانته اللائقة في شجرة الكتابة و الجمال.وهو يعلن أن لامحيد ولابديل عنه.كما أنه في الآن نفسه إعلان عن أن المبدع أصبح منقادا إلى مصيره المرتبط بالكتابة .
وعُلية الإدريسي تكتسب هذه الصفة بإصدار ديوانها الثاني: (هواء...طويل الأجنحة ) سنة 2014،بعد (حانة.. لويأتيها النبيذ) سنة 2009، كلاهما صادر عن دار التوحيدي للنشر.وكأنهما، في الآن نفسه،عملان يعيدان زمن مجد القراءة وسعادتها تربعت على تاريخ يمتد منذ منتصف القرن العشرين باعتماد مؤلفات اصطلح عليها بكتب الجيب،هو عمل صغير الحجم يسهل حمله،وبالتالي قراءته .تنضاف إلى ذلك قيمة أخرى من صميم المنتوج المعاصر كهبة تكنولوجية هي إرفاق الديوان بقرص مدمج موقّع بصوت الشاعرة.مشفوع بالأناقة الفائقة التي يمنح بها الديوان نفسه للمتلقي ،لا يمكن لهذا الأخيرأن يقاوم كل ذلك الإغراء...وهو ما يذكرنا بالإحساس ذاته تجاه عمل سابق مع الشاعرة المغربية الفذة :وفاء العمراني،كانت سباقة إلى نفس التجربة.
تختلف تجربة الكتابة لدى علية الادريسي في (هواء..طويل الأجنحة)عن تجربتها السابقة في (حانة.. لو يأتيها النبيذ)بالنظر إلى مساحة القصيدة وكيفية توزيعها؛فإذا كانت التجربة الأولى تمنح نفسها للمتلقي بشكل مجزأ دلت عليه العناوين الفرعية لقصائد الديوان بها تنحت نسقية الدليل بجعل الدوال محيلة في الغالب على الموضوعات ذاتها وعلى العوالم ذاتها في إطار تنصيص تجربة الذات في الوجود وتحديد رؤيتها للعالم أمام كاووس يمور بالشك والإرتياب من الوعي بالذات والجهر بتصدعها .الشاعرة تذهب إلى ذاك التشظي وتقبض عليه ثم ترجه بعنف في عبارات تثمر "إطلاقية الدليل"،وتتخلص من الغباء وتتدثر بالحس الأنطولوجي الممهر بالوجع رتق مزق الروح بكل مستصدرات الحداثة من عقل وحرية ونسيان وألم ورغبة وقلق وحزن وعزلة ...فإن التجربة الثانية _التي نخصها بهذه الدراسة_ ترتاد عوالم الكلية والنظام والنسقية،حين يمنح العمل نفسه على شكل حزمة شعرية واحدة يصعب معرفة بدايتها ونهايتها.وكأن كل بداية نهاية والعكس صحيح.وإذا كانت كتابة الشعر تدخل في إطار التعبير عن الألم والتخلص منه،فإنه ما يجعل منها التجربة _القذف،أوزعقة نسر أبي ريشة حينما نشّاها صرخة حرّى في الوجود ليلوي عنقه وينام...
لسنا هنا أمام منتخبات شعرية، وإنما أمام القصيدة / الديوان، تترجم بما لا يدع مجالا للشك الدفقة الشعورية حين يطول نفسها، بشكل ماكر لأن الشاعرة بقدر ما يمتد تعبيرها  في مساحة العمل بقدر ما يعتمد على الاقتصاد في الدليل، وكأنها تكتب شعر الشذرة، تكتب شعرا يومض ليخطف البصر في لمعانه يرتد حسيرا في النظرة إلى الكيان وفي عدم الكتابة بالبراني.إنه شعر يحيل إلى الباطن في خلخلة الجاهز،وفي شطح العبارة،وفي تفتيق ألق لذة التلقي وتوسيع مداركه وفي خلق نوع من التماهي بينهما وكأنها حضرة بّاطوسية  حقيقية تحيل القارئ إلى عالم من الطهر والبراءة ذات النسغ الكاطارسيسي. فليس الأمر هو هو تماما يكون ويستمر بعد قراءة التجربة الشعرية، هي حالة معطاة من التبدل والتغير في الإحساس هو تماما كالإحساس الذي ينتابنا ونحن نستحم في النهر. الكتابة الشعرية هنا نهر، والمتعاطي لها في تبدل وتغير مكينين، الكتابة هي النهر وهي الزمن وهما معا علية الإدريسي.
لم تثبت علية الإدريسي أرقاما لصفحات الديوان، وإنما تركتها غفلا من ذلك لمقصدية أربكت المتلقي خصوصا أثناء الاشتغال التحليلي في عملية الإحالة، قد يكون بهدف التنبيه إلى دائرية العمل والدفع بالقارئ إلى البدء بالنهاية كإمكانية لقراءة العمل تذكرنا بأعمال أصيلة في السرد المغربي كما حالة رواية محمد برادة ( لعبة النسيان) التي تبدأ سرديتها بحدث موت للاالغالية ثم تعود إلى استعراض شريط حياتها عن طريق الاسترجاع وصولا إلى الحالات الأولى في الوجود للهادي.يمكن قراءةهذه الرواية مرة أخرى من الخلف للوصول إلى النهاية المنطقية المتحققة في إطار الصيرورة الأفقية هي فعل الموت وحدثه .هي طريقة في قراءة تقر بالبعد الدائري للكتابة ،يستثمرها أيضا كيليطو في تحليله لحكاية (الأحدب والصياد)بطريقة مذهلة وشيقة،تماما كما ديوان علية الإدريسي(هواء ...طويل الأجنحة)،فإنه قابل لإعادة قراءته من آخر صفحة دون أن يطرأ أي تغيير على التمثل الدلالي للقصيدة ،ودون أن يتم تعتيم الأنا المشعرنة فيها.وكأننا أمام اكتمال التركيب على مستوى كل صفحة على حدة.صحيح أن التعالق بين الصفحات وارد.لكن الأمر ذاته بالنسبة للتفكيرفي الاستقلال والتفرد.وكأن صفحات القصيدة كل مرة هي نهر.تكون قراءتها موازية للنزول إليه:فالقصيدة هي هي ولكن جريان الماء فيها متبدل ومتغير.ألا يمكن أن يعيدنا هذا الفعل إلى وحدة البيت في القصيدة التقليدية؟ قد يكون لذلك حساسية هنا. ولكن يصعب الجزم بها ما دام العمل الشعري مطرز بالهدب أسعفته شفوف اللغة في انتاج الجمال،إذ كل اجتزاء لمقطع يجعله يستصدي غيره؛وللتأكد تكفي إصاخة السمع وإطباق الأذن على مساحة العبارة لتنتهي إليها أصوات الغائب في الحاضر. وليحضر هذا في ذلك الغائب بالتوصيف الرائع ذاته للتوحيدي.وليصبح الحضور مطلقا بالنهاية ولا مكان للغياب كما يترجمه العنوان بروعة فائقة في إمكانية التفكير في قسمة عادلة بين الشاعرة وبين المتلقي. مانحة إياه الحياة المؤكدة في الأولوية بامتلاك الهواء وحيازته،إهداء له طقوسية إنشادية مكينة:"لك هذا الهواء الطويل ولي الأجنحة".لها هي الحرية المؤكدة في الإرتباط بلفظ الأجنحة وما تحيل إليه من دلالة الطيران وجس فراسخ الفضاء بالجناحين ،لابد معها أن تستحصل بالنتيجة الحياة .ولتكون على موعد معها كما الحرية باعتبارهما قيمتين حداثيتين متغنى بهما في الشعر الإنساني.وكأن العنوان يخطف أصالة فولتيرية تنحاز إلى قيم الإنسان ومجده...
لنفرض أننا قلبنا جملة العنوان وعوض الإبقاء على لفظ (الأجنحة)في وظيفته النحوية المتصلة بالإضافة،زحزحناه ليحتل الصدارة ،مالذي يمكن أن يقع؟
بالتأكيد ستصبح الجملة كاملة التقويم التركيبي ،فتكون( الأجنحة)مبتدأ و(هواء) هو الخبر في حين يظل لفظ (طويل) نعتا. هل يمكن لذلك أن يغير في دلالة العنوان؟ حتما لايقع هناك تغيير جوهري في الدليل لوجود تداخل وتواشج بين (الهواء) و(الأجنحة) لما يمكن أن يحيلا عليه ،حين تعلق سماؤهما الدلالي بالحرية وبالحياة في الآن نفسه ؛فالهواء مكون ضروري في الوجود وله،وهو أحد الأسطقسات الأربع.وكذلك (الأجنحة) فهي تخول التحول وجس الفراسخ وإطلاق النفس لاستشعار المدى سبحت فيه الذات وتنشّقت نسغ الوجود سواء بالمعنى الحاف أم بالمعنى الرمزي.هكذا ترتبط (الأجنحة)،إذن،بدلالة الحرية والحضور والإمتلاء والتأكد من حيازة شغاف الروح.لم يكن اعتباطا أن يتمنى الشاعر القديم أن تكون له جناحان لعله إلى من يهوى يطير.وهو ما يفسر صيغة التمني لاستحالة المنجز في الحقيقة ،وإمكانيته في الحلم وفي التمثل الوجداني .ما من شك أيضا أن الهواء هنا يستصدي في صواتيته لفظ (الهوى) ،وكلاهما ضروري للإنسان في الموضوع كما في الذات.وكلاهما يخلقان رغبة التشبث بالحياة.
في غموض جملة العنوان تحريض على العيش ،وعلى الحضور ،وعلى الأمل في الحياة.وعلى أن هناك فسحة لإمكانية تحقيق ذلك.في اقتناص دقيق لرؤية متفائلة للوجود.
بعد قراءة "البرولوغ" المصوغ ب(صيغة أولى)،تضعنا التجربة الشعرية وجها لوجه أمام شعرنة الذات في ترجمتها لحضورها المكين مستلفة من نزعتها الفروسية،ثم إفراغها من ذلك وإلباسها نزعة لوغوسية حين استقراء عناصر الوجود وفق علاقاتها المنطقية ،أو نزعة باطوسية حين نقل أحاسيس الذات تجاه وجود هو من صميم مستغلقات الحداثة وأعطابها ،التي حققت الرفاه والإحساس بالإغتراب في الآن نفسه .هذا الوضع المفارق هو الذي تنحته الشاعرة في إيحائية التعبير المؤسّس على المنطق ذاته ،تقول:
(...) أنا القطار السريع
أحمل صغار العصافير.
لعلها ثنائية:الشدة والرقة،عنجهية القطار وجبروته المتأكد في نعت (السريع) أمام حلم العصافير وبراءتها المؤكدة في لفظ (صغار) ثم دلالة السفر،أداته في مستحدثات المدنية.وسفر آخر أداته الجناحان كهبة من هبات الطبيعة.هو تناقض حاد يتم التقليل من فداحته بواسطة فعل(أحمل) لردم الهوة بين الثقافي والطبيعي وإحلال بعضهما الآخر.في انتصار واضح للنزوع الثاني عن طريق إغراق العبارة في كل ما يرتبط به من خلال عناصر محددة هي:البحر،السماء ثم البرتقالة.

تعليق عبر الفيس بوك