اختيار مسقط عاصمة للدولة العمانية (1789م)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

        بنيت مسقط مع تدفق الهجرات العربية التي أعقبت انهيار سد مأرب. وكانت لها أهمية تجارية في العصر الإسلامي إذ وصفها الملاح العماني الشهير شهاب الدين أحمد بن ماجد في القرن الخامس عشر الميلادي بأنها أهم موانيء عمان، ومن أهم موانيء المنطقة. وقد زادت أهميتها عند احتلال البرتغاليين لها في عام 1507 لما تمثله من أهمية استراتيجية وموقع جغرافي أتاح لها السيطرة على مدخل الخليج العربي. وقد حرص البرتغاليون على تقوية الميناء وتعزيزه ببناء قلعتين هما الجلالي والميراني في عام 1588 . بقيت مسقط أقوى القواعد على سواحل شبه جزيرة العرب، وأدت دورا مهما في الصراع بين البرتغاليين ومنافسيهم مثل الهولنديين والانكليزوالعثمانيين والفرس.  وبعد قرابة قرن ونصف من الاحتلال استطاع العمانيون أن يحرروا مسقط في عام 1650 بقيادة الإمام سلطان بن سيف اليعربي، مكملا ما بدأه سلفه الإمام ناصر بن مرشد في تحرير عمان.
وشهدت مسقط في عهد اليعاربة مزيدا من النمو العمراني والاقتصادي، وكان اعتمادها كليا على إيرادات التجارة سواء الخارجية منها مع البلدان المجاورة أو الداخلية مع المدن والمناطق العمانية. وقد أدى تولي أحمد بن سعيد البوسعيدي الإمامة إلى تضاعف الاهتمام بمسقط، فقد كان رجلا سياسيا واعيا، وله اهتمام خاص بالتجارة مما أنعش مسقط اقتصاديا . وعندما توفي وخلفه في الحكم إبنه سعيد في نهاية عام 1783 فضل هذا الأخير حياة العزلة في الرستاق، وتنازل لابنه حمد عن سلطاته الفعلية. واتخذ حمد من مسقط مقرا ومركزا لإدارة شؤون البلاد، وكان ذلك على الأرجح في عام 1789 ، يشير إلى ذلك حميد بن محمد بن رزيق في كتابه (الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين) بقوله : ((مضت على حمد منذ حاول الملك إلى أن أدركه سبع سنين ،ومكث فيه بعدما أدركه ثلاث سنين)). وحيث أن حمد توفي عام 1792 فقد بدأ حكمه الفعلي 1789 وعلى هذا الأساس يخطئ من يشير إلى أن حمد أصبحت له السلطة الفعلية  في عمان قبل ذلك التاريخ. وكان لاختياره مسقط  عدة دواعي واعتبارات منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ، وإن كانت الدوافع الاقتصادية هي المحرك الأبرز فقد كانت مسقط تمثل ميناء تجاريا مزدهرا يوفر عوائد مالية لا غنى عنها للبلاد، وهي تمثل الانفتاح على البحر والانفتاح على العالم الخارجي.  
   
         كانت لدى حمد رغبة واضحة في تعزيز موقع عمان على الساحة الإقليمية، وعدم اتباع سياسة العزلة التي مال إليها والده. لقد كان مركز الثقل في عمان ـ التي اشتهرت بخبرة ملاحية بحرية وتجارية مند القدم ـ يتمثل في الموانئ عامة وفي مسقط بصفة خاصة آنداك، ولذا وجدنا حمدا يبادر إلى تحسين قدرات بلاده العسكرية ببناء القلاع والسفن، ويسارع إلى استرجاع السلطة على الساحل الشمالي المطل على الخليج العربي. إضافة إلى أن المجتمع التجاري ـ صاحب النفوذ في الموانئ ـ كان يطمح لوجود سلطة سياسية تدرك أهمية الموانئ والتجارة. وهكذا قرر حمد اختيار مسقط مركزا للإدارة.
اتبع حمد أسلوب حكم رشيد في إدارة شؤون البلاد ، فقـّرب إليه رجال العلم و شيـوخ القبائل وأكابر أهل البلاد ، وبـدأ يطوف بمدن عمان يتفقد أمور الناس يصنع ذلك في السنة مرتيـن فحصلت له في القلوب هيبة ومحبة. وقد وزع المناصب الإدارية في مسقط  على ذوي الخبرة، فقد عيـّن سليمان بن خلفان الوكيل واليا علىها ، وأقر محمد بن رزيق  على جماركها، وعيـّن في منصب القضاء فضل بن سيف اليحمدي. كما أولى عناية خاصة بالقوة العسكرية فاهتم ببناء الأبراج والقلاع والحصون، ومن ذلك بناؤه قلعة في روي ـ إحدى ضواحي مسقط ـ وقلعة مثمنة بحصن بركا نصب فيها مدافع كبيرة ، وأمر ببناء سفينة حربية كبيرة في زنجبار أسماها (الرحماني).  
     
تجارة مسقط في عهد السيد حمد بن الإمام سعيد:

          عندما تولى حمد أمور الدولة (1789 – 1792) عمل بجد على تنشيط التجارة عبر ميناء مسقط . وتركزت سياسته التجارية على ما يلي:
أولا: تأمين السيطرة على رحلات السفن عبر مضيق هرمز، وفرض ضريبة على كل السفن التي كانت تمر على ميناء مسقط سواء القادمة من البصرة عبر رأس مسندم أو القادمة من الهند والصين وشرق أفريقيا عبر المحيط الهندي، وقد تطلبت تلك السياسة من حمد زيادة أعداد السفن التجارية، فأمر ببناء المزيد من السفن ذات الأشرعة المربعة من مختلف الأنواع والأحجام، وبنيت في موانىء الهند. وبلغت القوة البحرية في عهده شأنا كبيرا  حتى أنه فكر في إخضاع بومباي المدينة والميناء البحري الهندي المطل على المحيط الهندي.

      ثانيا: التحكم بالوضع السياسي والتجاري في الخليج، وعدم السماح للقوى العربية الأخرى بمنافسة عمان في ميدان التجارة. وقد قام حمد بتعزيز نفوذه على ميناء خورفكان وجزيرة الحمراء والرمس والشارقة في عام 1787، مما عزز من موقع مسقط التجاري. ولكن العتوب تمكنوا بعد استيلائهم على البحرين في عام 1783 من منافسة نشاطات مسقط التجارية، فقد امتلكوا سفنا مكنتهم من الإبحار مباشرة إلى سورات في الهند ، وكانت أهم صادراتهم إلى الهند اللؤلؤ. وقد عُرفت البحرين بشهرة عريقة مند القدم بتجارة اللؤلؤ. وطوال القرن السابع عشر وحتى استيلاء العتوب عليها خاضت الشركات الاوربية العملاقة وهي شركات الهند الشرقية الهولندية والفرنسية والانكليزية منافسة شديدة فيما بينها من أجل الحصول على أكبر الحصص الممكنة من لؤلؤ البحرين. وقد بدأ العتوب يقومون بإجراءات متعددة من أجل جذب التجار إليهم، وجعل البحرين محطة تجارية مهمة في المنطقة، منها عدم فرضهم أي تعرفة جمركية على البضائع القادمة إليهم من مختلف البلدان والموانئ، وإبحارهم بشكل مباشر إلى سورات بالهند وبعض الموانىء الأخرى دون التوقف في ميناء مسقط لدفع رسوم الميناء. ويرى الباحث أن هذه الإجراءات لم تؤثر بشكل كبير على نشاط الحركة التجارية في ميناء مسقط في عهد حمد لأن تجارة العتوب كانت ما تزال في بداية عهدها.

        ثالثا: اهتم حمد بتخفيض الضرائب الجمركية، فبعد أن كانت في عهد الإمام أحمد موزعة حسب الطوائف والقوميات، وكان الأوربيون يدفعون 5٪ من قيمة بضائعهم ، والهنود المسلمين 6 ٪، والهندوس 9٪ ، عـّدل حمد هذا القانون في عام 1790، وأصدر قانونا أصبحت الضريبة الجمركية 2.5٪ على جميع التجار ما عدا الهندوس الذين فرض عليهم 5٪ . وبالرغم من زيادة الضريبة الجمركية المفروضة على الهندوس إلا أن قسما كبيرا من تجارة مسقط قد تحولت بعد ذلك إلى أيديهم.

         رابعا: إقامة علاقات تجارية مع السند وأفغانستان عن طريق وادي نهر الأندوس وبنجاب. ولقد ساعد حمد على ذلك الوضع الاقتصادي في السند، حيث تمكن التجار المسلمون هناك بمساندة من الحكومة المسلمة المعينة حديثا آنذاك أن يسيطروا على العمل التجاري. كما بدأت سفن مسقط بنقل حجاج أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى من و إلى الحجاز لأداء فريضة الحج .
 
        استطاع حمد من خلال سياسته التجارية المبنية على الأسس المتقدم ذكرها أن يعزز من مكانة عمان التجارية، وأصبح ميناء مسقط في عهده أحد أهم موانىء المنطقة، فقد كان محطة رئيسية لتبادل البضائع بين الموانىء الهندية والفارسية والعربية سواء المطلة منها على الخليج العربي أو البحر الأحمر. وكانت البضائع تنقل من مسقط إلى موانىء البحر الأحمر والخليج العربي عبر سفن ومراكب يقودها العمانيون الذين كانوا أصحاب نشاط وكفاءة وخبرة ملاحية متوارثة منذ أقدم العصور، كما قاموا أيضا بنقل البضائع من مسقط إلى الموانىء الهندية جنوب القارة الآسيوية، ووصلوا إلى بومباي Bombay وساحل مالابارMalabar  وكلكتا Calcutta  والموانىء الأخرى في تلك الأنحاء.
         
       كان من المنتظر أن تشهد عمان مزيداً من الاستقرار والرخاء في عهد السيد حمد إلا أن الأجل باغته في في ليلة الجمعة 8 رجب 1206هـ الموافق تقريبا 2 مارس 1792، إثر إصابته  بالجدري ، ومما يذكر أنه كان قبيل وفاته يستعد لتوجيه حملة كبيرة ضد هدف لم يشأ أن يفصح عنه (كما جرت عادته على ذلك) فلما بدت أعراض المرض عليه عاد مسرعا إلى مسقط ، وصادف أن أشعل مجهولون النار في أكبر سفنه وهي (الرحماني) فتحسرعلى سفينته حسرة شديدة،  وتوعد الفاعلين بالانتقام حال شفائه، ولكنه توفي بعد ثلاثة أيام من ذلك الحادث، وشيـّعه جمع كبير من الناس في جنازة مهيبة ، ودفن في الوادي الأوسط في مسقط. وقد أثارت وفاته الحزن الشديد لدى العمانيين لأنه كان محبوبا، كما حزن والده عليه كثيرا ، وقال في رثائه جملة قصائد ، وكان الإمام سعيد شاعرا وأديبا.

تعليق عبر الفيس بوك