التكنولوجيا: السلاح الأقوى في التوازنات الجيوسياسية

فيفيك وأدوا – واشنطن بوست
ترجمة وتحليل مضمون: أ.د/ أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم


أُخِذت الحكومات والشركات والخبراء الاقتصاديون جميعاً على غرة بالتحولات الجيوسياسية التي حدث مع تحطم أسعار النفط وتباطؤ الاقتصاد الصيني. ويعتقد معظم هؤلاء أن أسعار النفط سوف تنتعش وأن الصين سوف تستمر في الارتفاع. وإنهم لمخطئون. بدلاً من القلق بشأن صعود الصين، نحن بحاجة إلى الخوف من سقوطها؛ ففي حين قد تتأرجح أسعار النفط على مدى السنوات الأربع أو الخمس المقبلة، سوف تأخذ صناعة الوقود الأحفوري طريقها للتعملق، وستتحول موازين القوى العالمية نتيجة لذلك.
وخلال العقود الماضية، أضحت المصابيح الكهربائية الموفرة LED والتدفئة المحسنة وأنظمة التبريد ونظم البرمجيات في السيارات أكثر كفاءة في استهلاك الوقود. ولكن الصدمة الكبرى لصناعة الطاقة جاءت من تكنولوجيا "التكسير" (أو الحقن) Fracking؛ مجموعة جديدة من تقنيات وتكنولوجيات لاستخراج المواد الهيدروكربونية أكثر من الأرض. وبالرغم من أن هناك قلقاً بشأن الضرر البيئي، فإن هذه الزيادة في الناتج من النفط والغاز أدت إلى أن تحل هذه التكنولوجيا محل خطوط محطات الطاقة بالفحم، وأحدثت انخفاضا هائلا في اعتماد  أميركا على النفط الأجنبي.
الصدمة التالية ستأتي من الطاقة النظيفة. الآن، تتقدم الطاقة الشمسية والرياح بمنحنيات متسارعة. على سبيل المثال، تتضاعف معدلات تركيب الطاقة الشمسية مرة كل سنتين، وتنخفض تكاليف الوحدة الكهربائية الضوئية بحوالي 20%. وحتى بدون الإعانات التي تتخلص منها الحكومات بشكل تدرجي، فإنه بحلول عام 2022، سوف تتراجع التكاليف الحالية لمنشآت الطاقة الشمسية إلى النصف، محدثةً تناقصا في عوائد الاستثمارات في المنازل، على الصعيد الوطني، لمدة أقل من أربع سنوات. وبحلول عام 2030م، سوف تكون الطاقة الشمسية قادرة على توفير 100% من احتياجات طاقة اليوم؛ وبحلول عام 2035، سوف تبدو مجاناً تقريباً – فقط كمكالمات الهاتف الخليوي اليوم.
قد يبدو من الصعب تصديق ذلك نظراً لأن إنتاج الطاقة الشمسية اليوم يوفر أقل من 1% من احتياجات الطاقة اللازمة للأرض، ولكن هذا ما ستفعله التكنولوجيات المتسارعة Exponential Technologies، فسوف تتضاعف هذه التكنولوجيات في الأداء كل سنة أو سنتين وتنخفض أسعارها. ونظرا لأن كاليفورنيا تولد بالفعل أكثر من 5% من طاقتها الكهربائية من الطاقة الشمسية المعدلة للاستعمال، فإنه ليس من الصعب فهم ما يمكن أن يكون تأثير عدد آخر قليل من مضاعفات الانقراض الوشيك لصناعة الوقود الأحفوري. إن (حركة تطور) التكنولوجيات المتسارعة مضللة لأنها تتحرك ببطء شديد في البداية، لكن هذا الــ 1% سوف يصبح 2%، ثم %4 ثم 8% ثم 16%. كما يقول المستقبلي "راي كورزويل"Ray Kurzweil ، عندما تكون التقنية المتسارعة 1% تصبح أنت في منتصف الطريق إلى 100%،  وهذا ما هو عليه الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الطاقات الآن.
إن أي شخص متتبع للنمو المتسارع لتكنولوجيا "التكسير" والتقدم التدريجي الذي يبذل في صيانة الوقود وكفاءة استهلاكه كان ينبغي أن يكون قادراً على التنبؤ، منذ سنوات، بأن أسعار النفط سوف تنخفض بشكل كبير بحلول عام 2015م. فلم يكن مفاجئاً أن تغييراتٍ صغيرة نسبياً في العرض والطلب سوف تتسبب في اضطرابات واسعة النطاق لأسعار النفط العالمية؛ وهذه هي طريقة عمل الأسواق، حيث تتَسبَّب هذه التغيرات في  سقوط هائل للسلع الآجلة وأسعار الأسهم عندما يحدث التباطؤ. وهذا ما يحدث في السوق الصينية أيضاً. إن توقف نمو أكبر صناعات الصين من الصناعات التحويلية قد تسبب في آثار متتالية في جميع أنحاء الاقتصاد الصيني.
على مدى عقود، كانت الصناعة التحويلية تنهمر من الصين إلى الولايات المتحدة وأوروبا داعمة بذلك نموها. ومن ثم بدأ مزيج من ارتفاع تكاليف العمالة والشحن والتشغيل الآلي يغير من اقتصاديات الصناعة التحويلية في الصين. والآن، أوشكت الروبوتات أن يزيد من ميل كفة الميزان.
وقد أعلن فوكسكون Foxconn في أغسطس 2011م أن الروبوتات سوف تحل محل مليون من الأيدي العاملة البشرية. لكن هذا لم يحدث، لأن الروبوتات حينئذٍ لم تكن قادرة على العمل جنبا إلى جنب مع العمالة البشرية، وأن تقوم بتجميع لوحات الدوائر الإلكترونية المتطورة. ولكن جيلا أحدث من الروبوتات مثل" أي بي بي يومي" ABB's Yumi و"روبوتات سوير لإعادة التفكير" Rethink Robotics’ Sawyer  يمكنها القيام بذلك. وهي ماهرة لدرجة أنها تستطيع أن تلضم الخيط بالإبرة، وكلفة الروبوت الواحد لا تتعدى ثمن سيارة.
إن الصين على علم بالتقدم المحرز في الروبوتات، وتخطط لأخذ زمام المبادرة في الاستعاضة عن البشر بالروبوتات. وتقوم مقاطعة قوانجدونغ Guangdong  ببناء "عامل المعمل-الصفر" “zero-labor factor الأول بالعالم الذي يعمل بـقوة ألف (1,000) روبوت يقومون بوظائف 2,000 عامل من البشر. وقد يُرَى هذا كحل لزيادة تكاليف العمل.
إن المشكلة بالنسبة للصين تكمن في أن الروبوتات التي تملكها ليست أكثر إنتاجية من نظرائها في الغرب، فهي جميعا تعمل 24 × 7  (24 ساعة 7 أيام في الأسبوع) دون شكوى ولا بدون انضمام إلى نقابات عمالية. إنها تكلف نفس الكلفة وتستهلك القدر ذاته من الطاقة. ونظرا لأوقات الشحن الطويلة وتكاليف النقل المرتفعة، فلم يعد هناك معنى لإرسال المواد الخام عبر المحيطات إلى الصين ليتم تجميعها في صورة سلع مكتملة الصنع ليتم شحنها إلى الغرب مرة أخرى، حيث يمكن أن تصبح الصناعة التحويلية مرة أخرى صناعة محلية.
سوف تستغرق الشركات الغربية سنوات عديدة لتتعلم تعقيدات الصناعة الروبوتية، وكيفية بناء المصانع المؤتمتة، وتدريب العاملين والتعامل مع التحديات اللوجستية لسلاسل التوريد التي تجري في الصين. ولكن هذه المشاكل يمكن التغلب عليها. ما يمثل الآن عدد ضئيل من الصناعات التحويلية للغرب سوف يصبح فيضان خلال خمس إلى سبع سنوات.
وبعد ذلك، سوف تبدأ ثورة تكنولوجيا أخرى: هي الصناعة الرقمية.
في الصناعة التحويلية التقليدية، تُنتج الأجزاء بواسطة الأيدي العاملة البشرية باستخدام أدوات آلة تحركها القوة، مثل المناشير والمخارط وآلات الطحن ومكابس الحفر، من أجل إزالة المواد للحصول على الشكل المطلوب. في التصنيع الرقمي، تُنتج الأجزاء بواسطة ذوبان طبقات متعاقبة من المواد استناداً إلى نماذج ثلاثية الأبعاد – إضافة مواد بدلاً من الطرح منها. وتستخدم الطابعات ثلاثية الأبعاد "3D" التي تُنتج هذه الأجزاء المعادن المسحوقة وقطرات من البلاستيك ومواد أخرى – مثل الكثير من خراطيش الحبر التي تستخدم في طابعات الليزر. ويمكن للطابعات ثلاثية الأبعاد أن تنشئ بالفعل الأجهزة الميكانيكية المادية والزراعات الطبية، والمجوهرات، وحتى الملابس. ولكن هذه بطيئة وفوضوية ومرهقة، تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه الأجيال الأولى من الطابعات النافثة للحبر. هذا الوضع سوف يتغير.
في أوائل العشرينيات من هذا القرن (2020s)، سيكون لدينا طابعات ثلاثية الأبعاد أنيقة وبأسعار منخفضة لبيوتنا يمكنها طباعة اللعب والسلع المنزلية. وسوف تستخدم الشركات الطابعات ثلاثية الأبعاد للقيام بالإنتاج على نطاق صغير للحرف والسلع التي كانت سابقا كثيفة العمالة. وفي أواخر العقد المقبل، سوف تكون لدينا مباني باستخدام الالكترونيات والطابعات ثلاثية الأبعاد. وهذه، في نهاية المطاف، ستكون سريعة مثل طابعات الليزر اليوم. وبحلول عام 2030، لا تندهش إذا قامت الروبوتات الصناعية بالإضراب، وحملوا لافتات تقول "التوقف عن الطابعات ثلاثية الأبعاد: أنهم يأخذون وظائفنا بعيداً."!!
إن الجغرافية - السياسية المترتبة على هذه التغييرات مثيرة وتبعث على القلق. سوف تعيد أمريكا إعادة اختراع نفسها تماما كما تفعل كل 30-40 سنة؛ وهي، بعد كل شيء، ستقود ازدهار التكنولوجيا. وكما نشهد بالفعل، فسوف تثير روسيا والصين الاضطرابات الإقليمية لإلهاء شعوبها المضطربة؛ وسوف تفلس الدول المنتجة للنفط مثل فنزويلا من إنتاجها؛ وسوف تصبح منطقة الشرق الأوسط مرجل لعدم الاستقرار. وسوف تستفيد البلدان التي استثمرت في تعليم وتثقيف سكانها وبناء اقتصادات قوية للمستهلكين، والتي لديها المؤسسات الديمقراطية التي يمكنها التعامل مع التغير الاجتماعي – لأن هذه البلدان سوف تكون قد لبت الاحتياجات الأساسية لشعوبها، وأمكنها معرفة كيفية الاستفادة من أوجه التقدم في التكنولوجيا.
**رؤية تحليلية لمستقبل الشرق الأوسط/ (المُترجِم):
أولا - هذا المقال يقدم رؤية ورسالة قوية لما يمكن أن تكون عليه الجغرافيا السياسة وما ستحدثه من تطور وتغيرات مثيرة للقلق، لكنها مهمة في نفس الوقت. إذن، ليست الأسلحة والصورايخ النووية هي العامل الأساسي في هذه التغيرات، بل هي التكنولوجيا المتسارعة والتطور التقني خاصة في مجال الطاقة هو العامل الحاسم في التطور والازدهار وحتى الاستقرار. هذه الرؤية الاستراتيجية تقول بوضوح إن مستقبل الأمم رهن بالعلم والتقدم التكنولوجي، وليس رهن بما ينفق على الأسلحة أو التسابق النووي، وأن هذا ليس خيارا بل هو حتمية يجب على الدول، وبخاصة دول النفط في الشرق الأوسط، التنبه لها واللحاق بها.
ثانيا - لا يبدو أن أسعار النفط سوف تشهد صعودا مؤثرا خلال العقد الحالي بسبب التحديات المختلفة المتمثلة في البدائل الحديثة للبترول (البترول الصخري أو الأحفوري)، وبسبب التكنولوجيات المتسارعة الحديثة الموفرة للطاقة. بل على العكس، يمكن التنبؤ بانخفاض اسعار البترول في المستقبل بسبب توفر البدائل النظيفة وبأسعار زهيدة، وفي كل الأحوال لا ينبغي التعويل على البترول مستقبلا في عملية التحول الاقتصادي للمملكة، ويجب أن توجه استثمارات عالية في مجال المعرفة والتكنولوجيا المتسارعة، وكذلك العمل على تثقيف المجتمع وتربية النشء على ذلك.
ثالثا - إذا كان دول الخليج قد أُخذت بالانخفاض المفاجئ والسريع لأسعار النفط نتيجة لنقص الدراسات الاستراتيجية التنبئوية، فإننا لا يجب أن نتأخر في الاستفادة من هذه الرؤىة المستقبلية التي تعكس بوضوح أهمية الاستثمار في التكنولوجيات المتسارعة خاصة في مجال الطاقة البديلة.
رابعا - يجب العمل على الاستثمار في الطاقة البديلة النظيفة (الطاقة الشمسية والرياح)، وهذا من شأنه أن يقلل من الهدر في الطاقة، كما يضمن عدم تأخر في هذا المضمار مما يضمن القدرة على اللحاق بركب التطور في مجال الطاقة، ويحميها من التقلبات التي يمكن أن تكون لها تأثير سلبي على المجتمع وتطوره.
خامسا - إن الخليج بما حباه الله من مساحة واسعة وشمس ساطعة يمكنها أن تعول بقوة –بإذن الله تعالى – على الطاقة الشمسية، وأن تهيئ البيئة التحتية لأن تستوعب وتتمشى مع متطلبات تركيب هذه الطاقة حتى لا يكون احلالها مكلفا في المستقبل.
سادسا - من الواضح أن الربوتات والطابعات ثلاثية الأبعاد سيكون لها دور كبير في الفترة القادمة في مجال الصناعات التحويلية، مما سيترتب عليه تحديات عديدة في مجالات وحركة التجارة العالمية. سوف تتوافر الربوتات بأسعار منخفضة وبكثرة في المصانع، وكذلك الطوابع ثلاثية الأباد، لكن يبقى القدرة على استيعاب هذه التكنولوجيا وتوطينها، والتعامل مع التحديات التي تفرضها مثل تحدي الأيدي العاملة البشرية، وانخفاض كلفة الانتاج، وما يستلزمه ذلك من خلق أسواق وفرص عمل جديدة أمام المواطنين الذين سيجدون منافسة قوية من تلك الأيدي العاملة التكنولوجية المتقدمة والماهرة.
سابعا - إن التحول إلى مجتمع المعرفة واقتصادات المعرفة يجعلنا مطالبين بأن نتوجه بقوة نحو الاستثمار في المعرفة وما يتضمنه ذلك من تغيرات في الفكر والعمل والتعليم والصناعة. إن الاستثمار في المعرفة هو ما سيضمن للمملكة التنمية المستدامة واستمرار الازدهار والقدرة على مواجهة التحديات المستقبلية.
ثامنا - يجب على صانعي السياسة التعليمية بالمملكة الالتفات بعناية إلى المجالات الاستراتيجية التي سنكون في حاجة إليها في العقود القادمة. ومن الواضح أن مجال التكنولوجيا والطاقة البديلة هي أحد أهم هذه المجالات الحاسمة التي ستكون المملكة في أمس الحاجة إليها.
تاسعا - هذه التغيرات الجيوسياسية من المتوقع –وفقا للتقرير- أن تحدث اضطرابات في بعض دول النفظ ودول الشرق بما فيها الصين ودول روسيا الاتحادية، وهذا سوف يخلق تحديات سياسية/ اقتصادية يجب أخذها في الاعتبار، والمسارعة للإعداد المبكر للتعامل مع هذه التحديات.
................................................
كاتب المقال:
فيفيك وأدوا Vivek Wadhwa زميل في مركز روك لـ "حوكمة الشركات" في جامعة ستانفورد، وهو مدير الأبحاث في مركز تنظيم المشاريع، وتسويق البحوث في جامعة ديوك، والزميل الموقر في جامعة Singularity University. تشمل تعييناته السابقة جامعة هارفارد وجامعة كاليفورنيا بيركلي، وجامعة أموري.
نقلا عن:
The strongest weapon to shift geopolitical balances isn’t nukes or missiles, it’s technology
https://www.washingtonpost.com/news/innovations/wp/2015/10/05/the-strongest-weapon-to-shift-geopolitical-balances-isnt-nukes-or-missiles-its-technology/

تعليق عبر الفيس بوك