حاتم الطائي
بحسابات الأيام والشهور، يُكمل العالمُ اليوم الشهرَ الأربعين على الهبوط الحاد في سعر برميل النفط والمسجَّل في يونيو 2014، كبداية لأزمةٍ غيَّرت - بمبدأ الرِّبح والخسارة - موازين القوى وخطوط الدفاع الاقتصادية، وروَّجت بصورة أكبر لمفهوم التنويع الاقتصادي كملاذ آمن من الصدمات النفطية، وأوْجَدت مساحات عريضة لترتيب جدول الأولويات والبحث عن الجديد..
ولم تكن السلطنة بمنأى عن هذا الحراك الدراماتيكي بكل تأكيد؛ إذ جاءت اتجاهات الخطط والإستراتيجيات، والخطى والجهود على مُستوى الحدث؛ مجدِّدة الأمل في اقتصاد أكثر حيوية ومرونة، بَيْد أنَّ سياسة ترشيد النفقات المستمرَّة لليوم، تنذر بإضعاف محرِّك التنويع أو إبطائه على أقل تقدير؛ ما لم تكن هناك بدائل (ضمن سياقات التنويع الاقتصادي أيضًا) تُوجِد -وتُزِيد- مصادر التمويل الآنية بما يُساعد على ترجمة طموح الخطط إلى واقع حقيقي مُعاش.
وهو حديثٌ يكتسب أهميته من مُعطيات اللحظة، ويعيد للواجهة مرة أخرى الدعوة لضرورة استحداث شراكات جديدة في الداخل والخارج، كدعامات تحفيز لا غنى لمسيرة التحوُّل عنها.. وإنْ كان العام الماضي كشاهدٍ على انطلاقة أعمال منتدى "استثمر في عُمان" -الذي دُشن تقريبا في نفس التوقيت- يُسجِّل بداية جادة للترويج الاستثماري للسلطنة، فإنَّ الحملة الترويجية "استثمر في الدقم"، والتي يعود وَفدَاها من الصين والهند، بمذكرتيْ تفاهم يسجِّلان نجاحاً جديدًا للمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم؛ إحداهما وقِّعت مع الاتحاد الصيني للصناعات البتروكيماوية في بكين، والثانية مع شركة أداني للموانئ والمناطق الاقتصادية في العاصمة الهندية نيودلهي. كلا المذكرتان تعكسان وعياً حقيقياً بمكامن القوة ونُضًجا في اتجاهات وطرق استثمارها، أوصلتْ لقناعةٍ -شخصية على الأقل- بأن حلم "الدُّقم بوابة للاستثمار الإستراتيجي"، آخذ في التحول إلى حقيقة، وأننا على بُعد خطوات من جني ثمار جهود الجذب الاستثماري، في الدقم على أقل تقدير، لتتبوأ مكانتها كبوابة مرور حقيقية نحو تعزيز التكامل الاقتصادي الخليجي من جهة، ومفتاحًا لأسواق آسيا وإفريقيا، ومحطة إقليمية للنقل البحري من جهة أخرى.
لقد نجحت شركة عمان لتطوير المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم حقيقةً في اختيار توقيت بدء الحملة؛ التي انطلقت والدقم متسلحة بما يلزم من مرافق لإقامة أي مشروع صناعي؛ واكتمال بنيتها الأساسية من شبكات طرق واتصالات، وخدمات لوجستية تسهيلية للمستثمرين، وبعد توقيع عقد إنشاء المدينة الصناعية الصينية بالمنطقة بتكلفة 10 مليارات دولار، كمشروع يعطي الحملة الترويجية ثِقلا، هو ومشروع "مصفاة الدقم" -المشترك بين شركة النفط العمانية وشركة البترول الكويتية العالمية- والذي يمثل أحد المشاريع الكبرى والذي سيكون بمثابة خط انطلاق لخطة تحويل الدقم إلى أحد أضخم المراكز الصناعية والاقتصادية في المنطقة، وبما يتكامل والمحفِّزات التنظيمية والقانونية، سواء بمنح حق الانتفاع بأراضٍ، أو ضوابط تشغيل الأيدي العاملة، وتكاليف استئجار المباني، والمرافق، والخدمات الأساسية؛ كمجموعة ضمانات تحقِّق انتشارا متوازنا للاستثمارات الصناعية، وتوفِّر فرص عمل جديدة، وتوطِّن النشاطات الصناعية القائمة بالمنطقة من البداية.
ومع الأخذ بعين الاعتبار حسابات الأيام والشهور مرة أخرى، فإنَّ الزمن المستغرَق في الوصول لاتفاقية إنشاء هذه المدينة -على سبيل التدليل فحسب- كان قصيراً جدًّا في عُرف اتفاقيات بهذا الحجم والعائد، كما أنَّ نجاح السلطنة أساساً في اقتناص اتفاقية كهذه من دولة عظمى بحجم الصين -في وقت تقلِّص فيه دول العالم حجم استثماراتها الخارجية- يؤكد قدرة اقتصادنا الوطني على اجتذاب مُختلف الاستثمارات، وما تتمتع به بلادنا من مقومات، كما يعتبر مكسباً للرؤية السياسية الثاقبة التي مهَّدت الطريق بعلاقات دبلوماسية متزنة أمام شراكات بهذه القوة، أضف إلى ذلك بُعد نظر الحكومة بتنمية الموانئ العُمانية لتكون كما هي الآن مُؤهلة للتجاوب مع نمو التجارة العالمية.
إنَّ النجاح المتحقَّق لحملة "استثمر في الدقم" مُلهِم للبناء عليه في الترويج لباقي مناطقنا الصناعية والمناطق الحرة الأخرى، وعلى رأسها: المنطقة الحرة بصحار وميناء صحار الصناعي، والمنطقة الحرة بصلالة، والمنطقة الحرة بالمزيونة، وصناعية الرسيل، ونزوى، وصور، والبريمي، وريسوت، وسمائل، وعبري ومسندم. وفي الجانب منها: منطقة تقنية المعلومات بواحة المعرفة مسقط، والمتخصصة في صناعة تقنية المعلومات وتقنية الاتصالات، كبيئة ملائمة للاستثمار في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، وتعزيز مجالات التنويع، لحجز مكان مرموق في الترتيب العالمي لاستقطاب استثمارات تزيد اقتصادنا الوطني قوة ومتانة؛ وفي سبيل ذلك مازلنا بحاجة لمزيد من الترويج والندوات والمؤتمرات واللقاءات التجارية الترويجية خارج حدود الوطن، وتوظيف وسائل الإعلام للتعريف بإمكانياتنا الاقتصادية كبلد جاذب للاستثمارات ومصدر للخدمات التنافسية، والتنسيق مع الملاحق التجارية في سفاراتنا بالخارج لاستكشاف أسواق جديدة والتسويق للسلطنة كسوق واعدة، وإعداد ونشر التقارير والبيانات والمعلومات حول البيئة الاستثمارية العُمانية، مع التركيز على إيجابياتها، وهي جهود تعظِّم في المقابل حجم الأمل المعقود على الهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات والجهات المختصة الأخرى، لبذل مزيد من الجهود؛ من أجل عُمان جاذبة للاستثمارات في ظلِّ بيئة اقتصادية معزِّزة للتنافس.