أبعاد إستراتيجية (10)

العقارات: ركيزة نماء، وموقد غلاء

د. هلال بن سعيد الشيذاني

لا أحسب أنَّ اثنين منِّا يختلفان على أن العقار هو أحد الركائز الوطنية المهمة التي تحقق الاستقرار العام والرفاه لقطاعات المجتمع المختلفة. فالبيت، هو أحد أركان استقرار الأسرة، وبعد تملّكه تنتقل الأسرة إلى تحقيق الأهداف الأخرى في منظومة حياتها؛ والعقار المستأجَر للمؤسسة الصغيرة والمتوسطة، هو القاعدة التي تنطلق منها إلى السوق، وفيها تحقق طموحاتها وأحلامها بالنمو لتصبح كبيرة؛ والعقار للمؤجِّر مصدر دخل يحقق له الطمأنينة. إلا أن ذات العقار هو معولُ هدمِ كثيرٍ من الأحلام والطموحات، وهو الموقِد الذي فيه تتفحم الآمال وتصعُب الحياة، إذا تأثر بأطماع النفس ورغباتها غير المستقيمة.

تنقسم مشكلة العقار إلى ثلاث فئات مختلفة، تصحيح المسار فيها يُعتبر أحد أهم الأبعاد الاستراتيجية لحياة متزنة الرفاهِ اجتماعيا واقتصاديا، ليس للبعض، وإنما لعموم المجتمع، حتى ذوي الحظوظ الكبيرة. المشكلة الأولى هي اهتزاز ميزان العدالة الاجتماعية في الحصول على الأراضي؛ والثانية، اختلال ميزان جودة التشييد؛ والثالثة، غلاء العقار الذي يؤدي إلى غلاء كل شيء بعده.

في طابور الانتظار آلاف من المواطنين ممن تقدموا بطلباتهم للحصول على أراضٍ من الحكومة، وهناك مئات الآلاف ممن حصلوا على أراض، إلا أن الفارق بين الإثنين أن من ينتظرون تمر بهم السنوات في الانتظار، ثم يجدون أنفسهم مكبلين بالديون التي تصحبهم فيما بقي من أعمارهم، لأن دورهم لم يصل، فاضطرتهم الأوضاع إلى الاستدانة ليكون لهم البيت الذي يأويهم وأولادهم. وهناك في الجانب الآخر، من حصل على قطعة أرض في منطقة نائية لا تعمير فيها ولا خدمات، ولا يحلم في القريب العاجل أن تُعمّر، فهو إما منتظر للخدمات وإما سالكٌ مسلك الفريق الأول. وفي الطرف النقيض لهما، هناك من حصل على قطعة أرضٍ في مكان قريب ومدينة زاخرة بالتنمية، وبالتالي فهو من تلك الفئة المحظوظة التي تنعمُ بقرير الحياة الظاهر. لكن هل حصوله أو حصولها على قطعة الأرض تلك، كان في مسار العدالة الاجتماعية أم أنه كان نتيجة استثناء هنا أو اختلال هناك؟ وعلى أية حال، فإنّ الموقف ليس موقف فتوى دينية فيمن يحمل الذنب وفيما هي الحدود التي تدخل في مجال المساعدة وما يدخل في مجال إساءة استغلال الوظيفة؛ إلا أن هذا الوضع يعد مشكلة وطنية مُؤثرة.

وحين نتجول في أرجاء مدننا الزاخرة، نجد الكثير من المباني المشيدة، تدل على دناءة الجودة وخلل البناء وضعف التشييد، وهنا تبرز المشكلة الثانية، وهي أن هذه المباني إن كانت اليوم تتحمل الأوضاع العادية، فهل ستتحمل الأوضاع الاستثنائية، وكلنا يعلم أن الظواهر الطبيعية لا يمكن القول ببعدها عن أي منطقة أو مدينة. فعلى من تقع مسؤولية هذه المشكلة، المقاولون، والذين هم في أغلبهم وافدون، لا يعني لهم الوطن شيئًا، فقد جاءوا إليه لجمع الأموال وتحويلها إلى بلدانهم، أم المهندسون الذين يراقبون تشييد المباني ويشرفون على ضمان جودتها، أم المفتشون الذين يتأكدون من صحة المواصفات المقررة، وبالتالي يعتمدون أنها مشيدة حسب الأطر والمواصفات الوطنية؟ هنا تبرز الوطنية الحقة، والأمانة الشخصية، ولي في ذلك تجارب لستُ هنا لعرضها، إلا أنَّ هذه التجارب تدل على تواطؤ المعنيين بالإشراف والتشييد مع المقاول لتحقيق فائدة قليلة ربما للمتواطئ وفائدة أكبر للمقاول، وخسارة كبيرة للمواطن والوطن.

المشكلة الثالثة، هي ارتفاع قيمة العقارات في التشييد، والبيع، والتأجير. وهذه المشكلة لها أبعاد ليس على مستوى المستأجر أو المشتري فحسب، وإنما على المجتمع كله بما فيه البائع والمؤجر. فارتفاع قيمة العقار أحد أسباب ارتفاع معدلات الدَّين على الأفراد، فكلما غلت العقارات زادت الديون. وفي العقارات التجارية تبرز هذه المشكلة بصورة أوضح، فكلما ارتفعت قيمة الإيجار، ارتفعت معها تكلفة تشغيل المؤسسات التجارية، مما يرفع من قيمة السلعة، وبالتالي تعود على المستهلك العام، في صورة من صور الغلاء غير المبرر. نعم، هناك أسباب أخرى للغلاء، أهمها الطمع بتحقيق أرباح سريعة، إلا أن العقار له دور مهم في هذا الجانب لا يُمكن إنكاره.  

تبرُز المشكلات الثلاث أعلاه، تحديات استراتيجية كبيرة للوطن، ففي حين تهتز صورة العدالة الاجتماعية في الحالة الأولى، يدفع الوطن ثمن التواطؤ بشكل كبير في الحالة الثانية، وتنخر تكلفة الإصلاح والصيانة عظام جيوب المواطن لصالح العمالة الوافدة من جديد، ليعني ذلك أن المواطن يتحول في كل شيء إلى مستهلك يدفع جلّ ما يجني من دخل ليعيش حياة البساطة لا حياة الرفاه. أما الحالة الثالثة، فلها أثر اقتصادي كبير على الوطن كله، حيث إن العلاقة بين الكلفة والغلاء، علاقة إيجابية، فكلما ارتفعت التكلفة التشغيلية للمحلات والمؤسسات، ترتفع معها قيمة السلع، مع بقاء دخل المواطن في ذات مستواه، وهو ما يعود بعد ذلك بالفرد غير الأمين إلى سلوك مسالك قبول الرشوة ليتمكن من تغطية التزاماته المالية المتراكمة بسبب ارتفاع تكلفة الحياة، وبالتالي يدفع الوطن من جديد ثمن اختلال ميزان الأمانة، الذي لا يستفيد منه الوطن ولا المواطن، وإنما سواهما.

وهكذا، فإنَّ للعقار بعدا استراتيجيا مهما في رفاه الوطن الذي يحقق رفاه المواطن، لكنه شائك. وعلى ذلك، فإن إعادة النظر ودراسة منظومة العقار، وتحديد سقوف للتأجير أو البيع، وتعاون الكل لضمان جودة البناء أو الضرب بيد من حديد لكُلّ من يخون أمانته، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الأراضي حسب نظام مبني على الشفافية هو المخرج السليم للمجتمع والوطن للبقاء في أطر الأخلاق العمانية المشتهرة، وفي ظلال الدين الحنيف، وفي نعمة الاستقرار الاجتماعي العام الذي يصف واقعه الدقيق الحديث النبوي الشريف "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

إن عُمان تستحق الأفضل، فلنكن جميعاً الجسد الواحد لعُمان، وإلا فالطريق يقود إلى قِيَمٍ عمانية مضيعة، وصورة دولية مهزوزة، واقتصادٍ بدلا من أن يتعافى وينهض، يختل ويضعف.

 

    تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك