نحن في حاجة إلى كتابة أدبية أصيلة

د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام
رئيس جمعيّة التّراث، القرارة، الجزائر


.....................
  ما أحوجنا اليوم إلى دارسات أدبية وفكريّة نقدية هادفة، تنبع من أصالة ما ينبغي أن يسود مجتمعا ما أو أمّة ما، تحكمها مبادئ متميّزة، وفلسفة خاصّة، وتسيّرها أو توجّهها قوانين وقواعد أساسية ثابتة، لا تتغيّر بتغيّر الزّمن، إلاّ بقدر ما يمنحها من الحيوية، ويضمن لها الحياة؛ وَفق سنن التّطّور، من دون أن يصيبها في عمقها وجوهرها.. دراساتٍ تراعي خصوصيّات الأمّة وثوابتها. تنظر إلى المتغيّرات بعين فاحصة وبصيرة يقظة، تتعامل معها بما يعين على الإفادة منها في جانبها الإيجابي، غير مستسلمة إلى درجة الذّوبان فيها.
 دراساتٍ تتحصّن بالثّقافة الأصيلة: تتعمّق المبادئ، وتتشبّع بالأصول، وتتعلّق بالأهداف ... ثم تتفتّح على الثّقافات الأخرى؛ لتفُيد منها وتُفيدُها. هذا يتطلّب إنشاء الأفراد على ثقافة الأمّة التي يتّصلون بها بالنّسب؛ حتّى يعكسوا أصولها ومبادئها في كتاباتهم وسلوكهم؛ إذ من المعلوم أنّ الفنّان أو الكاتب، يكتب بوحي من الثّقافة التي تلقّاها في صباه، وترعرع فيها في شبابه، ووَفقا لطبيعة الجمهور الذي يخاطبه .يقول الدّكتور محمد حسن عبد الله: "إنّ فن الشّعر ثمرة الميراث الثّقافي وموقع الشّعر في البنية الاجتماعيّة، ورغبة الذّات في تجاوز فرديتها بالاتّصال بالآخرين في جوّ من الإثارة".
  دراساتٍ تتميّز بخصوصيّتها وشخصيّتها؛ لتتمكّن من التّحكم في توجيه الدّراسات توجيها يتلاءم مع مبدأ الالتزام، والمحافظة على الأصالة؛ وذلك باختيار الرّأي الأصيل، المبنيّ على الوضوح والإقناع، وانتقاء المناهج المنسجمة مع الهدف من الدّراسة، والغاية من البحث؛ حتىّ لا تتفرّق بها السّبل، فتشرّق وتغرّب، وتتلوّن بألوان الأوضاع الآنية ،وتقع تحت تأثير السّياسات المهيمنة المستبدّة، وتنبهر بأصباغ التّيارات المستجدّة المختلفة... دراساتٍ أو كتاباتٍ تسعى إلى الكشف عن غنى الفكر والأدب، اللّذين ينتمي إليهما أصحابهما، وينحدرون منهما... دراساتٍ تُعْنَى ببيان أنّ الأمّة التي ينسب إليها من يكتب عنه وعن فكرها؛ بيان أنّهما أَسْهَمَا بقوّة في الفكر الإنساني  وآدابه. وهما قادران على المزيد من العطاء. هذه الدّراسات لا تصدر إلاّ من الكتّاب المؤمنين حقّ الإيمان بالأصول التي ينحدرون منها، ومن الواعين للثّوابت التي تحكمهم، والعارفين للأهداف التي تشدّهم.
كما لا تتحقّق هذه الغايات إلاّ من الكتّاب الأُصَلاءِ في كتاباتهم، فكرا ولغة وأسلوبا، القادرين على التّرجمة عن حقيقة الأمّة التي ينتسبون إليها؛ هؤلاء يشترط فيهم أن يكونوا نزهاء في الإحساس، وصادقين في التّعبير عن أدب الأمّة وفكرها، وقادرين على نقلهما بكلّ أمانة وقوّة، مع البقاء في محور الأمّة ودائرتها فكريّا وعاطفيّا ولغويّا، كما لا يتحقّق هذا الأمل إلاّ مع الذين يتمكّنون من الانفلات من خطر الذّوبان في الآخر، والحفاظ على شخصيّاتهم، وهم دارسون لثقافات غيرهم، ومُفيدون منها ما يبني نفوسهم، ويصقل ذاتهم، من دون أن يفقدهم كيانهم.

ولا يتجسّد هذا إلا في كتابات من يحمل شعار الأصالة والمعاصرة: الأصالة في المحافظة على الثّوابت، والأصالة في الفكر . والمعاصرة في الوفاء للعصر الذي يعيش فيه من يكتب: مضمونا وأسلوبا، ومُفيدا ممّا ينزل السّاحة من جديد؛ يُسهِم في تنمية قدراته، وصقل مواهبه، وتطوير فكره، وتجويد أسلوبه، وتحسين أدواته في الكتابة.

ولا يحدث ذلك إلاّ إذا كان هناك تنويع في الكتابة، يراعي جانِبَي العقل والعاطفة، ويتوخّى استقصاء الفنون المختلفة في الكتابة :  شعرا وقصّة ورواية ومسرحيّة ومقالة وخاطرة... إذ بذلك تظهر قدرة أدب تلك الأمّة وفكرها على استيعاب كلّ قوالب الكتابة، ولا يبدو قصور فيهما؛ يكون مطيّة للطّعن فيهما، وفي أصالتهما ومكانتهما، ثمَّ التّذرّع بالاستعانة بما عند الآخر، ونقله بحذافيره؛ مما يسبّب استلابا وذوبانا، وبعدها فقد الأصالة وضياع الثّوابت.
ولا تتحقّق هذه الرّغبة إلاّ إذا كان النّقد بنّاء مؤسسًا على قواعدَ صحيحةٍ. إذا كان هذا النّقد حاضرا مع كلّ الأعمال الفكريّة والفنيّة؛ يثبّت ويقوّم ويصحّح ويعدّل ويرفض ويقبل.

هذا ما نفتقده في كثير من الدّراسات التي قدّمها أبناء الأمّة الإسلاميّة الذين يُفترَضُ فيهم أن يكونوا في مستوى رسالتهم المسؤولة، فيتناولوا أدبهم بطريقة تخدم أهدافهم التي هي أهداف الإسلام وهو ما يفرض عليهم أن يعالجوا الأدب على أساس أنه موقف ورؤية ومبدأ ومسؤوليّة، ومن منطلق أنّ ما يحكم تجارب الأدباء صفاتٍ ثلاثُ: إيمان وعمل صالح، وانتصار للإسلام. كما حدّدت ذلك الآية الكريمة:  [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا  وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227). وقال الدّكتور محمد ناصر مسجّلا هذه الصّفات "... يمكن أن يُعَبّر عنها بالمصطلح المعاصر الالتزام بِقِيَمِ الإسلام : وعي وعقيدة راسخة مع عمل صالح مع موقف ثابت"

إنّ ما يتعرّض له العالم الإسلامي من هجمات على الشّخصيّة الإسلاميّة وآداب الأمّة: تشويها وطمسا وتهوينا وتزهيدا، وصدّا لأبناء الإسلام عن تراثهم بعامّة، وآدابهم بخاصّة بشتّى الطّرق والوسائل، وفي المقابل العمل على ربط الأجيال بتراث غيرهم، وتسخير الإمكانات للتّزوّد والتّعلّق بآداب الآخر، وعودة الوعي للغربيّين بخاصّة لردّ الاعتبار للعلوم الإنسانيّة. كلّ ذلك يجعل مسؤولية الأدباء ثقيلة وكبيرة للنّهوض بأدبهم بالمواصفات التي أشرنا إليها.
وهذه الملاحظات التي ذكرناها هي ما بدأنا نجد لها تجسيدا على أرضيّة الدّراسات الأدبيّة الحديثة – بخاصّة-  هذه الدّراسات من شأنها أن تقف في وجه من يسعى إلى تشويه ثقافتنا وتزييف أدبنا، وتتصدّى لمن يحاول الانحراف بأدبنا ودارسينا ونقّادنا عن سواء السّبيل؛ بإبعادهم عن أصولهم، التي ينبغي أن تحكم حياتهم ومنطلقاتهم في البحث والدّراسة والإبداع.

تعليق عبر الفيس بوك