سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (5)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ


في الحلقة الرابعة استعرضنا بعضا من كُتب معاني القرآن وتفسيره وقراءاته على وفق الترتيب التاريخي، في قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيْرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾. محاولين الإجابة على سؤال السائل: ما السر وراء قوله تعالى :( لله) جوابا على (من)؟ فقلت :لننظر إن ورد مثلها في (القرآن الكريم) على شاكلة هذا الأسلوب؛ أي وقوع (مَنْ) الاستفهامية بعد (القول) ,وجوابها ,جريا على المنهج في الاستقراء ,وضم النظير إلى النظير. وفي هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه:
قال ابن خالويه (ت370هـ): "...فالحجة لمن قرأها بلام الإضافة : أنه رد آخر الكلام على أوله فكأنه قال: هي لله, ودليلهم أنهما في الإمام" بغير ألف, والحجة لمن قرأهما بالألف أنه أراد بهن الله, قل هو الله, وترك الأولى مردودة على قوله لمن الأرض؟ قل لله , و الأمر بينهما قريب؛ ألا ترى لو سائل : من رب هذه الضيعة ؟ فإن قلت : فلان , أردت ربها , وإن قلت: لفلان, أردت هي لفلان , وكل صواب ومن كلام العرب ". غير ابن خالويه المثال! أما ابن جني (ت392هـ) فلم يقف على الآيات في كتابه (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات و الإيضاح عنها)! وقال الطوسي (ت460هـ): "من قرأ (الله) بإثبات الألف , فلأنه يطابق السؤال في قوله (من رب السموات السبع ورب العرش...ومن بيده ملكوت كل شيء) لأن جواب ذلك على اللفظ أن يقولوا (الله) ومن قرأ (لله) بإسقاط الألف حمله على المعنى دون اللفظ, كقول القائل لمملوك : من مولاك ؟ فيقول: أنا لفلان, وأنشد الفراء لبعض بني عامر:
وأعلم أنني سأكون رمسا                   إذا سار النواجع لا يسيرُ
فقال السائلون لمن حفرتم؟          فقال المخبرون لهم : وزيرُ
لأنه بمنزلة من قال : من الميت ؟ فقالوا له : وزير"، وقال البغوي (ت516هـ): قرأ العامة (لله) ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى , كقول القائل للرجل: من مولاك ؟ فيقول : لفلان , أي أنا لفلان وهو مولاي ..." كرر ما قاله الفراء والطبري في المثال! وجاء جار الله الزمخشري (ت538هـ)فقال : " قرئ ...الأخيران : باللام, وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين و الكوفة والشام , وبغير اللام : وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة, فباللام على المعنى , لأن قولك: من ربه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ"، وتكرار الرأي واضح عند الزمخشري، وقال ابن عطية الأندلسي (ت546هـ):" قرأ أبو عمرو وحده (لله) جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة (لله) جوابا على المعنى كأنه قال في السؤال لمن ملك (السموات السبع) إذ قال لمن هذه الدار؟ وقولك من مالك هذه الدار؟ واحد في المعنى" كرر ابن عطية الرأي والمثال، ولم يكن دقيقاً في قوله (قرأ أبو عمرو وحده)، وقال الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548):"الحجة: أما قراءة أهل البصرة فجواب على ما يوجبه اللفظ، ومن قرأ (لله) فعلى المعنى، وذلك أنه إذا قيل: من مالك هذه الدار؟ فأجيب لزيد، فإن الجواب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ، فإن الذي يقتضيه اللفظ أن يقال زيد، إنما استقام ذلك لأن المعنى من مالك الدار؟"
ولا جديد عند الطبرسي!، وقال ابن الجوزي (ت597هـ):"قال الزجاج: ومن قرأ (سيقولون لله) فهو جواب السؤال، ومن قرأ  (لله) فجيد أيضا، لأنك إذا قلت: من صاحب هذه الدار؟ فقيل: لزيد، جاز لأن معنى من صاحب هذه الدار؟ لمن هي؟ وقال أبو علي الفارسي: من قرأ (لله) في الموضعين الآخرين فقد أجاب على المعنى دونما يقتضيه اللفظ"، ولم يخرج ابن الجوزي هنا عما قاله (الزجاج) و(أبو علي الفارسي)، وهذان مسبوقان بهذا الرأي، وقال الفخر الرازي (ت604هـ):"... وقرئ (لله) في الأخيرين باللام في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وبغير اللام في مصاحف أهل البصرة فما الفرق؟ الجواب لا فرق في المعنى، لأن قولك من ربه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد" والكلام هو هو عند الفخر الرازي. وقال أبو البقاء العكبري (ت616هـ):" وأما الموضعان الآخران فيقرأان بغير لام حملاً على اللفظ، وهو جواب قوله تعالى من رب السموات؟ ومن بيده ملكوت؟ باللام على المعنى، لأن المعنى في قوله من رب السموات: لمن السموات؟"
وقال أبو البقاء أيضاً:" وأما الموضعان الآخران فيقرأان بغير لام حملاً على اللفظ، وهو جواب قوله تعالى (من رب السموات- من بيده ملكوت) باللام على المعنى، لأن المعنى في قوله (من رب السموات) لمن السموات". والعكبري في كتابيه لم يزد شيئاً!. وقال القرطبي (ت671هـ):"وأما من قرأ (سيقولون الله) فلأن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه... وأما من قرأ (لله) باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فلأن معنى (قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم): قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم، فكان الجواب (لله) حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية وقال الشاعر:
إذا قيل: من رب المزالف والقرى      ورب الجياد الجرد قلت: لخالدِ
أي لمن المزالف" زاد القرطبي هنا شاهدا شعرياً!. وقال أبو البركات النسفي (ت710هـ):" الأول (لله) بالإجماع إذ السؤال لمن، وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك قلت من ربّ هذا فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعر:   
إذا قيل: من رب المزالف والقرى      ورب الجياد الجرد قلت: لخالدِ
وكرر النسفي ما ذكره القرطبي!. وقال أبو حيان الأندلسي (ت745هـ):" فالقراءة الأولى – يعني قراءة (الله) – فيها المطابقة لفظا ومعنى، والثانية – يعني قراءة (لله) – جاءت على المعنى، لأن قولك من رب هذا؟ ولمن هذا؟ في معنى واحد" وقد تابع أبو حيان من سبقه في أنّ المعنى واحد!. وقال السمين الحلبي (ت756هـ):" قوله: سيقولون لله. قرأ أبو عمرو سيقولون الله في الأخيرتين من غير لام الجر رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله من، لأن المسؤول به مرفوع المحل وهو مَنْ فجاء جوابه مرفوعاً مطابقا له لفظاً، ولذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحف البصرة، والباقون (لله) في الموضعين، باللام وهو جواب على المعنى لأنه لا فرق بين قوله (من رب السموات) وبين قوله (لمن السموات)، ولا بين قوله (من بيده) ولا بين (لمن له الإحسان) وهذا كقولك من رب هذه الدار فيقال زيد وإن شئت لزيد لأن السؤال لا فرق بين أن يقال لمن هذه الدار ومن ربها" وملاحظتنا على ما قرأناه في (الدر المصون): السَّقَطُ والتصحيف وكثرة الأخطاء الطباعية، ولا جديد!.
وقال البيضاوي (ت791هـ):" قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال" ولم يعقب البيضاوي على قراءة باقي السبعة!.، وقال ابن الجزري (ت833هـ):"واختلفوا في (سيقولون لله، سيقولون لله) في الأخيرين فقرأ البصريان بإثبات ألف الوصل قبل اللام فيهما ورفع الهاء من الجلالتين وكذلك رسما في المصاحف البصرية... وقرأ الباقون (لله، لله) بغير ألف وخفض الهاء وكذا رسما في مصاحف الحجاز والشام والعراق" ولم يفسر ابن الجزري سر اختلاف القراءتين لأنه ليس كتاب تفسير وإنما ذكرناه من باب توثيق القراءتين ورسمهما. وقال أبو الحسن البقاعي (ت885هـ):"... إن معنى من رب الشيء: لمن الشيء، فتفيد اللام المِلْك، صريحاً مع إفادة الربّ التدبير" يتبنى البقاعي رأي أن القراءتين (لله، أو الله) بمعنى. وقال جلال الدين السيوطي (ت911هـ):"سيقولون لله ثلاثتهن بغير ألف..." .ولم يعقب السيوطي على هذه القراءة بل استرسل في تخريج القراءة ورسم المصحف. وقال أبو السعود (ت951هـ):"(سيقولون لله) باللام نظراً إلى معنى السؤال، فإن قولك: من ربه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد" اختصر أبو السعود وأوجز متابعاً.
- وقال أحمد محمد الدمياطي (ت1117هـ):"واختلف في (سيقولون لله) الآية 87، 89، الأخيرين فأبو عمرو ويعقوب بإثبات ألف الوصل قبل اللام، ورفع هاء الجلالتين والابتداء بهمزة مفتوحة لمطابقة الجواب السؤال حينئذٍ لفظاً لأن المسئول به مرفوع المحل وهو (من) فجاء جوابه مرفوعاً مبتدأ لخبر محذوف تقديره (الله) ربهما بيده... والباقون (لله) بغير ألف وجرّ الهاء فيهما جواب على المعنى لأنه لا فرق بين من رب السموات، وبين لمن السموات، كقولك من رب هذه الدار؟ فيقال: زيد وإن شئت قلت: لزيد" جمع الدمياطي كل الأقوال التي سبقته فجاء كلامه مفصلاً ولا جديد!.
.............................
المراجع:
(1)    يقصد المصحف العثماني.
(2)    ابن خالويه: الحجة في القراءات السبع، ص158.
(3)    الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، 7/389.
(4)    البغوي: معالم التنزيل، ضبطه عبدالسلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، 4/389.
(5)    الزمخشري: الكشاف، 4/246.
(6)    ابن عطية: المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 4/153.
(7)    الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، 7/182.
(8)    ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير، 5/486-487.
(9)    الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، 8/290.
(10)    العكبري: التبيان في إعراب القرآن، دار الفكر، بيروت، ط1، 1997م، 2/239-240.
(11)    العكبري: إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب في جميع القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1979م، 2/151.
(12)    القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 6/96.
(13)    أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، 6/418.
(14)    السمين الحلبي: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق علي محمد معوّض، وعادل أحمد عبدالموجود، وجاد مخلوف جاد، وزكريا عبدالمجيد النوتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994م، 5/198.
(15)    البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2/110.
(16)    ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 2/329.
(17)    أبو الحسن البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، وضع حواشيه عبدالرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، 5/218.
(18)    السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، 5/16.
(19)    أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط4، 1994م، 6/148.
(20)    الدمياطي: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، ص405.
(21)   

تعليق عبر الفيس بوك