العوامل المؤثرة في كفاءة الأطفال اللغوية

د. عامر العيسري – مسقط – سلطنة عُمان


إن الطفولة المبكرة كمرحلة من عمر الإنسان تعد البذرة الأولى والأهم التي يبني عليها الأطفال باقي مراحل حياتهم كلها حيث يأخذ مسار نمو الأطفال فترات مختلفة من حيث سرعتها ويسلك طرقا متعددة للنمو في شتى النواحي الجسدية والعاطفية والفكرية والاجتماعية وكلها جوانب مهمة متداخلة ومتكاملة ، ولكل الأطفال قدرات ومهارات متفاوتة يمكن قياسها وتعزيزها ، ويعد ما يمكن للأطفال القيام به في هذه الفترة نقطة الانطلاق في تهيئتهم لتلقي العلم والمعرفة واكتساب المهارة حيث يتعلم الأطفال من كل ما يجري معهم وحولهم ، فالعلاقات وفرص الاتصال والتواصل التي تتوفر لهم مع غيرهم من خلال العمل التعاوني لها أهمية كبيرة لنموهم واستعدادهم التعليمي.
واللغة ترافقنا منذ الولادة وطوال حياتنا، فهي وسيلة الاتصال التواصل بين الأفراد على اختلاف أعمارهم في المجتمع يعبرون بها عن مشاعرهم ومعارفهم وأفكارهم وأخبارهم وعلاقاتهم ويدونون بها ما يرغبون توثيقه من انتاج معرفي وأدبي وفني وغيره، وإفراد مساحات من العناية بالقضايا المرتبط بتطوّر اللغة لدى الأطفال يعد من الاهمية بمكان لأن اللغة لا تنشأ بشكل تلقائي لتنمو هكذا بمسار طبيعي لدى الاطفال، وإنما هي نتيجة تفاعلهم مع بيئتهم وتأثرهم بمن حولهم  في حياتهم إيجاباً أو سلباً في تطوّر مهاراتهم اللغوية من خلال الاتصال والتقليد والمحاكاة للأفراد المحيطين بهم.
ومن الأقوال التي سجلتها المصادر التربوية ما يعرف عن عالم النفس والتربية "بياجيه" الذي أكد أن "اللغة تنمو بنمو القدرة على التفكير المنطقي وأن هناك علاقة وثيقة بين الفكر واللغة فكلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر" ، فالنمو اللغوي هو تطور لغة الطفل تدريجيا في مراحل متتابعة حتى يصل إلى مراحل يكون فيها قادرا على التعبير عما في نفسه، وتترافق تطورات النمو اللغوي مع نمو الجوانب الأخرى للطفل الحركية   والعقلية والعاطفية وغيرها، ومصطلح التنمية اللغوية في القاموس التربوي يعني الجهود التي تتهيأ للأطفال بشكل علمي بهدف تطوير لغتهم, وذلك بتوفير البيئة التعليمية المناسبة لهم، والتخطيط السليم من أجل معالجة الأداء اللغوي عندهم وزيادة حصيلتهم اللغوية، وتقديم خبرات ثرية من شأنها أن تنمي إمكاناتهم وتعزز دوافعهم وتطور قدراتهم على الاستخدام الصحيح  للغة من خلال التواصل بها.
وتمر رحلة  قطار النمو اللغوي عند الطفل في محطات عديدة قبل أن ينطق الكلام الحقيقي تدعى مراحل ما قبل اللغة، حيث يبدأ الطفل بعد الولادة في البكاء والصراخ للتعبير عن حاجته البيولوجية ومشاعر الألم والفرح لديه، وبعدها عندما يتواصل مع والديه ومن حوله من أفراد الأسرة تبدأ عنده مراحل المناغاة والتقليد والمحاكاة للأصوات والإيماءات المعبرة عن الرضا أو الرفض والشبع والابتسامة مثل مد الذراعين وحركات الوجه المختلفة، وفي هذه المراحل ينبغي تشجيع الطفل على إصدار الأصوات المتنوعة و محاكاتها وتقليد أصوات الآخرين ومشاركته في مناغاته وحركاته لمساعدته والأخذ بيده في رحلة نموه اللغوي، وتأتي بعد ذلك مراحل الكلام الحقيقي التي تبدأ من مرحلة الكلمة: (من عمر سنة إلى سنة ونصف) من خلال نطق كلمة ذات الحروف سهلة المخارج، وغالبا تكون اول الكلمات هي ماما و بابا ، ثم ينتقل الطفل إلى مرحلة الكلمة الجملة (من عمرسنة ونصف الى سنتين) من خلال نطق كلمة تدل على جمله مثل "بابا": وهو يعني ( بابا أنا هنا )، كما تأتي بعدها في عمر سنتين نطق الطفل للجمل الناقصة او جمل البرقية التي يتواصل بها الطفل مع من حوله، وتشير معظم الدراسات أن العام الرابع هو متوسط العمر الذي يكون فيه الطفل قادرا على نطق جمل تامة، ومن خلال استعراض هذه المراحل نؤكد على أهمية عدم استعجال الوالدين نطق أطفالهم والضغط عليهم وإنما عليهم توفير البيئة التعليمية المساعدة والثرية ليتمكنوا من التعايش مع طفولتهم وما تشتمل عليه من تطورات لغوية مع وجود تفاوت وفروق فردية من طفل إلى آخر.  
وهناك عوامل عديدة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على نمو لغة الطفل، وينبغي الإشارة إلى ضرورة إدراك هذه العوامل لاستغلالها في صالح النمو اللغوي للأطفال وسيره وفق خطوات النمو الطبيعي للأطفال، فهناك عوامل فردية مثل: جنس الطفل حيث تؤكد دراسات عديدة على  تفوق البنات على الذكور في النمو اللغوي، والذكاء أيضا من العوامل المهمة التي تؤثر على كمية المفردات والحصيلة اللغوية للطفل وصحة بناء الجملة وتركيب الكلمات، كما أن النضج والعمر الزمني للأطفال عامل أساسي حيث يتوافق نمو المدركات الحسية والجسدية مع نمو القدرات الكلامية ، كما أن الصحة العامة للطفل عاملا فعالا في استمرار وتيرة النمو اللغوي للطفل بشكل طبيعي لأن النمو اللغوي يعتمد بشكل كبير على سلامة الحواس وأجهزة الكلام والنطق والاستماع وصحة وظيفة الدماغ والصحة النفسية للطفل.
وبالإضافة إلى العوامل الفردية هناك عوامل بيئية وثقافية تؤثر كثيرا على التنمية اللغوية للأطفال سلبا أو إيجابا  مثل: العلاقات الأسرية، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة وحجم الأسرة، والبيئة الثقافية والاجتماعية، والخلط بين العامية والفصحى والخلط بين المعنى والشكل اللغوي (الديجلوسيا Diglossia)، ووسائل الإعلام المختلفة، ومدى توفر مصادر أدب الطفل (الحكايات والقصص والأناشيد....) ، وهناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر في نمو الطفل اللغوي، منها: تعدد خبراته، واتساع نطاق بيئته، ومدى اختلاطه بالبالغين الراشدين، والمكان الذي ينشأ فيه، وباستعراض هذه العوامل يتبين لنا أهمية وعي جميع الفئات بضرورة توفير العوامل الإيجابية المعينة للطفل في تنمية لغته والسعي للتقليل قدر الإمكان من العوامل السلبية.

يعتمد المنهج التربوي لتنمية لغة الأطفال على عدة نظريات لاكتساب اللغة منها نظرية التعلم (سكنر Skinner) التي تركز على أهمية التقليد والمحاكاة للكبار والتدعيم الإيجابي والتشجيع من الكبار، وكذلك النظرية اللغوية لـ تشوميسكي Chomsky التي تؤكد أن كل طفل يمتلك قدرة لغوية فطرية تمكنه من اكتساب اللغة ينبغي استغلالها في تقديم التعليم اللغوي المبني على التعلم والتأثير القبلي للأطفال، كما توجد النظرية المعرفية ل بياجيه Piaget، وهي نظرية ترى أن الطفل لديه استعداد للتعامل مع اللغة ويكتسبها عن طريق المحاكاة ولكن الكفاءة اللغوية لا تتحقق إلا بتفاعل الطفل مع البيئة الخارجية، ومعظم هذه النظريات في مجمل توصياتها تؤكد على أمور يجب مراعاتها لتنمية لغة الطفل تتمثل في أن التدريب على الكلام من خلال التقليد والمحاكاة وتكرار نماذج لغوية حية جيدة يساعد على النمو اللغوي، وأهمية رعاية النمو اللغوي من خلال الاهتمام بسلامة الجملة وصحة النطق، وتعويد الطفل على البعد عن الألفاظ البذيئة، واستخدام القصص والحكايات والأناشيد لتنمية اللغة، وعدم الإسراف في تصحيح الأخطاء اللغوية  ، واهمية سرعة معالجة أمراض الكلام لدى الطفل مثل (الفأفأة واللثغة وغيرها).

تعليق عبر الفيس بوك