قيم أخلاقية في عالم متغير

 

عبدالله العليان

في البرنامج التلفزيوني "راقي بأخلاقي.. قيم أخلاقية في عصر متغير"، والذي نظمته جمعية المرأة العُمانية بصلالة لمدة أسبوعين، وألقيت فيه العديد من المحاضرات، من علماء ومُفكرين وأكاديميين من داخل السلطنة وخارجها، بمجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة، وأدار هذه المحاضرات والحلقات الحوارية، المدرب العماني طلال الرواحي، طرحت في هذه الحلقات مفاهيم وعناوين مهمة لواقع الطفولة والتربية والشباب والإعلام، وكيفية نشر القيم والمنظومات الأخلاقية، بما يُعزز روافدها المختلفة مثل الإعلام الحديث وتأثيره على الأطفال، والفجوة بين الذات والذات، وأخلاقيات احترام القوانين، وفن النصيحة، والإعاقة والإبداع، ومواجهة آفة الغش، وغيرها من الموضوعات المطروحة في هذه المحاضرات.

وقد لاقت المحاضرات والجلسات الحوارية، حضوراً لافتاً من الشباب من الجنسين، وهذا مبعث السرور، لكون هؤلاء  الشباب هم الأكثر مُتابعة لهذه الحلقات المهمة والجديرة بالتكرار، ذلك أننا نحتاج للتوعية والتذكير ومناقشة الذات .. ماذا نُريد لأجيالنا أن تعرفه؟، وماذا يجب أن نأخذ من منجزات هذا العصر، وماذا نترك؟.. ولاشك أننا في حاجة ماسة لترسيخ القيم الأخلاقية القويمة التي يحرص عليها ديننا، وخصوصاً مع تعاظم وتوسع وسائل التواصل الاجتماعي الذي أصبح واقعاً بكل إفرازاته المتعددة، الصالح منها وغير الصالح، إذ كل أو أغلب رواد هذا التواصل من الشباب، وهم الأكثر انفتاحاً على هذه الثورة المعلوماتية الضخمة، فشباب اليوم هم كبار الغد، والغرس يجب أن يكون متوازناً مع القيم التي هي وقود النهضة والتقدم للأمة، ولذلك من المهم أن تتحقق السلوكيات والمثل التي أرساها ديننا، وكل القيم النبيلة التي ورثتها هذه الإنسانية عبر تاريخها، وأهمية ذلك القدوة في التربية، ثم في التعليم، حيث أهمية التلازم بين البيت والمدرسة، ومن التوصية الرائعة في هذا الجانب، ما ترويه بعض الكتب عمَّا يجب أن تكون عليه التربية القويمة، عن وصية الإمام الشافعي لمؤدب أولاد الخليفة هارون الرشيد، وكيف تلعب القدوة الحسنة، دوراً كبيراً في ترسيخ القيم الأخلاقية والمعرفية، عندما طلب منه سراج الخادم التوصية منه:"يا أبا عبد الله هؤلاء أولاد أمير المؤمنين، وهذا مؤدبهم فلو أوصيته بهم، فأقبل عليه الشافعي فقال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإنَّ أعينهم معقدة بك، فالحسن عنده ما تستحسنه، والقبح ما تكرهه، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم عنه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه ولا تخرجهم من علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم". ولذلك فإنَّ المحاضرات والحوارات في هذه المحاضرات، كان لها وقع طيب بين الحضور من خلال ما طرحه المحاضرون في كل الموضوعات المطروحة، ومن الفئات والأعمار، وهذا في حد ذاته خطوة لطرح ما من شأنه الرؤى التي تسهم في الوعي بأهمية القيم في هذا العالم المفتوح.

والبعض يطرح أولوية دور الإعلام في عمومه القديم والحديث، في اكتساب القيم، وفي توجيهها أيضاً، ولا شك أنَّ الإعلام الآن أصبح خطيراً في التوجيه، ومؤثراً في السلوك، لكن، علينا أن نؤسس لابنائنا في السنوات الأولى حصانة فكرية وتربوية وسلوكية (القدوة)، فهذه بلا شك تسهم في المناعة التي تبثها هذه الوسائل المتاحة الآن، للصغير والكبير، ولا نهرب من ذلك، أردنا أم لم نرد، وهذه حقيقة عند كل الأمم في عصرنا الراهن، ولم تعد الحواجز موجودة، بفضل التكنولوجيا المتقدمة والسماوات المفتوحة، وهذا ما يتطلب التفاعل مع هذه الوسائل، وطرح ما هو جاذب للأبناء، بعد أن نكون قد غرسنا القيم عمليا بالقدوة الصالحة، كما أشار إليها الإمام الشافعي كما أشرنا آنفاً، والكثير من المربين من العلماء والمفكرين، ففي عالم اليوم، حيث تتدفق المعلومة بانسيابية فائقة، نحتاج فعلاً إلى الكلمة الصادقة، والشفافية، والأفكار المشوقة، البعيدة الإسفاف والابتذال والإثارة وغيرها مما نشاهده في الكثير من وسائل إعلام هذا العصر، حتى يجد المتابع القيم الأخلاقية التي ننشدها لنا وأجيالنا، نعم نحن في عصر الانفتاح التكنولوجي، لكننا أيضًا علينا أن نتفاعل مع هذه التطورات، من خلال ما تملكه ثقافتنا العربية الإسلامية من قيم عظيمة ونيّرة، تؤسس لرؤية قيمية متفاعلة مع عصرنا، وفي هذه المرحلة التي لاشك أنها تتسم بالخطورة فكرياً، فنحن نعيش في تحولات كبيرة في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذه التحولات تحتاج إلى رؤية جديدة لهذه المتغيرات في عالم الإعلام والفضاء المفتوح، فهناك تغّير في النسيج الاجتماعي، وهذا بدأ يظهر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث محيط الأسرة، بدأ يتفكك من النسيج القائم، فترى الأسرة في البيت، منقطعة عن الجلوس معاً، فالكل منهمك مع نفسه في التواصل، حتى الأطفال مع ألعابهم، وهذا لاشك له مخاطره الاجتماعية والنفسية، ومن ثم إن لم نتدارك فإنَّ القيم ستشهد انحسارا، فالكثير منها ستتراجع كثيرًا، إن لم نؤسس لأطفالنا التربية التأسيسية اللازمة، وبعض الأسر للأسف في مجتمعنا تعطي الأطفال في سن مبكرة هواتف نقالة، من أجل إسكاتهم، حتى ربما يتفرغوا هم أيضًا للتواصل الاجتماعي، ومن خلال وسيلة (الواتساب) وغيرها، وهذا هو الخطر الداهم، الذي يعني أنَّ هذه الوسائل أصبحت هي الأب الجديد للأبناء، بعدما تخلى الآباء الحقيقيون عن التربية والتوجيه، وليس هذا فحسب فإنّ هذه الوسائط أو الهواتف لها مخاطرها الصحية أيضاً، كما يقول المتخصصون، ومن هنا فإنَّ هذا العصر الجديد بوسائله، يجب ألا نستهين بتأثيراته الكبيرة، مع أننا لا ننكر فوائدها وحاجتنا إليها، ففيها الخير وفيها عكس ذلك، لكن علينا أن نوازن بين التَّحدي والاستجابة لهذا الجديد من هذه التكنولوجيا، وهذا ما نود أن نفعله لأجيالنا وخصوصاً لأطفالنا.

والشكر الجزيل لجمعية المرأة العمانية بصلالة وإدارتها، على إقامة هذه المحاضرات والجلسات التي اهتمت بقضية القيم في هذا العصر المتغير.