الأصالة والحداثة في "نقوش على جدار"

...
...
...

إبراهيم موسى النحّاس – مصر


....................
طويل وشاق وممتع أيضا طريق الشعر خصوصاً إذا كان الشاعر قد وصل إلى درجة من الخبرة الحياتيّة والكتابيّة تجعل وعيه وذائقته النقدية لأعماله الإبداعيّة لا تقل قيمة عن هذه الأعمال الشعرية نفسها. ومع الرغبة في التجديد يرفض الشاعر أن يكون تكرارًا لأصوات شعرية أخرى سواء أكانت قديمة أم معاصرة زمنيّاً له؛ بل يصل به الأمر لرفضه أن يكرر نفسه في قصائده فتتسع وتختلف المسافة الفنية بين أول وآخر قصيدة كتبها. لتظهر لنا بصمة الشاعر وصوته الشعرى الخاص المتفرد على خارطة الشعر العربي.
وشاعرنا الجزائريّ (عيسى ماروك) ينتمي إلى ذلك النوع من الشعراء الذين يحفرون بأقلامهم فى صخور الحداثة للتميز الشعري والتفرّد والابداع. وكما يرى الحداثويون "أنّ الإبداع فعل حياة والمبدع ينتمي إلى التاريخ كلّه وليس إلى لحظة فيه" (1).
لذلك نجد شاعرنا يؤكد على حداثته من هذا المنطلق حيث يجمع فى شعره بين  أصالة الفكرة والرؤية والرمز الأسطوري والمعجم الشعري أحيانا مع حداثته التى تبنّت قصيدة النثر بما فيها من صورة كليّة واستبطان للذات والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة وتفكيك القصيدة؛ بل والعالم والمفارقة والحس الصوفي؛ كل هذا لا يولّد تناقضا  أو ازدواجية بين الشكل والمحتوى بقدر ما ينتج رؤية فكرية تؤصل وتؤمن بعدم التعارض مطلقا بين الأصالة والحداثة أو بين التراث والمعاصرة فيقول:
(من أرض بابل/  تطّاول عروق دم/ ويشمخ في الفرات/ موج ومحراب/ من أنملي يزهر الشوك.. حقول انعتاق / وينفرط عقد المسبحة. قديما قالوا: أولياء الله ينامون... في دمي/ في وجعي/ ويرحل الزهاد/لأرث مواويل التفجّع/ والاغتراب) (2).
وإذا كانت الكلمة لدى علماء اللغة والنقد الأدبي هي "أصغر وحدة ذات معنى تنهض بالتشكيل العام للأبنية والسياقات اللغوية المتباينة لأيّة لغة" (3).
فلذلك نجد معجم الشاعر اللغوي يعكس ذلك المزج الرائع لنسيج يجمع بين أصالة المفردة والرمز "أرض بابل، الفرات، انعتاق، المسبحة، أولياء الله، الزهّاد، الاغتراب، إرث مواويل التفجّع"، وبين استخدام قصيدة النثر بآليّاتها الحداثوية والتي سبق أن أشرت إليها.
ممّا يؤكد أنّ حداثة الشاعر قد بنيت عن وعى بعدم انفصالها عن الجذور، وأنّ حداثتنا العربية ليست - كما يدّعى البعض - تقليداً أعمى للغرب وكما أنّ الشاعر يؤكد أنّ قصيدة النثر قادرة على استيعاب التراث دون أدنى قطيعة معه ولننظر لهذا التوظيف القوى للرمز الأسطوري فى قصيدته (أغنية للغربة): "من أعاد فينيق/ من غربته؟/ من ألبس الأرض/ قناع السراب؟/ فتاهت مني مدينتي/ وإذا ما جنّ الليل/ أدمتني مراياها/ وهبَّت تجاويف النخل/ تنحت من هامتي/ أغنية للوطن"(4).
ورغم هذه المعاناة والشعور بالاغتراب والتشيؤ، فما زالت الذات حاضرة وما زال السعي والعمل والأمل فنراه يقول: "وراء تخومي رماد !!/ وألف فارس/ يرقب بعث العنقاء/ وراء تخومي/ سر/ وألف عاشق/ يرقب بدري الأخضر/ ماسك منذ الأزل/ على جمرة/ ومسبحة/ ماسك منذ الأزل/ على قلبي/ وأصَلّي/ لانبعاث المسيح" (5).
هذا الالتزام الروحى الصوفي الذى نستشعره فى هذة القصيدة يجعلني أستحضر كلمات الشاعر المصري الدكتور عبد الحكم العلاّمى حين قال عن مثل هذة الحالة: "نحن أمام عملية تنقية وتطهير لعوالق النفس وهي أشبه ما تكون بعملية تحصين لها حتّى تظل بمنأى عمّا قد يصيبها من شوائب" (6).
 فالالتزام الروحي يجعل الشاعر يصف نفسه على هذا النحو هكذا حين قال: "نبيُّ الفجر أنا / من فُجَاءَات الليل أطلع / ومن فضاءات المدى النرجسي/ ما الأوتار عمدتني /لا/ ولا النوارس أعتقتني/ لكن/ طريقي يرسمها الندى/ ونجيع يومض من هذي الجراح (7).
بهذه الصورة يظهر لنا عيسى ماروك في معظم قصائده فهو "الناسك والصوامع دمع والوميض يخرج من ثنايا الألم وبأوردته هبّت المواجد والالتياع، ويداعبه الانتشاء حين يلج الحضرة وتتجلّى الأسرار" فنراه في قصيدته (معارج الحنين) يعلن عن "صحاف قلوبنا المكروبة حيث تسكننا الرزايا وشهوة الفضول وتأويل الحلم" فى قصيدته (وخز الطلل).
ومن هذه النماذج يمكننا أن نقول"  إنّ ديوان (نقوش على جدار قديم) يجعلنا نقف بحق أمام حداثة شعرية جديدة تزيل الحدود بين التراث والمعاصرة وتتبنى قصيدة نثر "جديدة" تقوم على توظيف التراث والرمز الأسطوري واستخدام المعجم الصوفي والقيم الأصيلة فى نسيج لا يعرف التناقض، أو التنافر، أو ازدواجية الشكل والمحتوى بمغامرة شعرية كبيرة ومحسوبة للشاعر حيث تأبى قصيدته الاستسهال،  أو الوقوع فى براثن التقليد "الأعمى" سواء أكان للقديم أم لتجارب حداثوية أقل ما تُوصَف به أنّها (جعلت الشعر العربي يتطور ويتغيّر حتّى أوشك أن يخرج من إهابه العربي ويستبدل به إهابا لا بالعربي ولا بالأعجمي"  (8).
الهوامش:
(1)    اللغة والشكل، د. أمجد ريّان. - مركز الحضارة العربية، القاهرة، يناير 1999م، ص   8.
(2)    ديوان (نقوش على جدار قديم) عيسى ماروك، فيسيرا للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر 2012م، ص 17.
(3)    (دور الكلمة في اللغة)، ستيفن أولمان، ترجمة: د. كمال محمد بشر، مكتبة الشباب مصر، ط، 1975- ص 45.
(4)    ديوان (نقوش على جدار قديم)، قصيدة (أغنية الغربة)، عيسى ماروك، فيسيرا للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر 2012- ص 49.
(5)    المصدر نفسه.
(6)    الولاء والولاء المجاور، د. عبد الحكم عبد الحميد العلاّمي، سلسلة (كتابات نقدية)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2003م، ص 248.
(7)    ديوان (نقوش على جدار قديم)، قصيدة (ألواح القدر) عيسى ماروك، فيسيرا للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر 2012- ص 51.
(8)    الاختلاف حول شعر العقّاد، كمال النجمي، مجلة الشعر، العدد56 أكتوبر سنة 1989م، القاهرة، ص 84.

تعليق عبر الفيس بوك