الفلسطينيّ جسد منفي وروح يحلّق وراء النَّهر

عمر شبانة في "رأس الشاعر"

د. يوسف حطيني - ناقد فلسطيني ومحاضر في جامعة الإمارات


حين يقرأ المرء لعمر شبانة يشعر أنّه أمام شاعر، فرَّ، في غفلة، من عصر الرومانسية الأدبية، وهو يحمل على كتفيه أعباء حزنها وذاتيتها وعزلتها، إلى عصرنا الذي أضاف إلى قلبه حزن نائبة فلسطين، بكل ما تحمله من تمزيق للروح الذي يترنّح بين جرح الوطن وعذابات المنفى.
إنّ الشاعر، من خلال مجموعته الشعرية الجديدة التي حملت عنوان (رأس الشاعر ـ 2013) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، ومن خلال مجموعاته السابقة (احتفال الشبابيك بالعاصفة ـ 1983) و(غبار الشخص ـ 1997) و(الطفل إذ يمضي ـ 2007)، يبدو شاعرَ سِياق، لا شاعر مجموعة شعرية، بمعنى أنّ مجموعاته الشعرية هي محطّاته التي يفيء إليها في مراحل حياته المختلفة، باحثاً عن ذاته وصفاتها المختلفة، متأملاً في تفاصيل الروح والجسد، وأثر الزمن والمنفى على تلك التفاصيل.
*         *         *
بين عذابات الروح والجسد تنشد روح الشاعر تفاصيل رحلتها، وهي تشتق من تلك العذابات جوهر حزنها الذي يلخّص حياة شاعر ارتضى الحزن صديقاً، يغفو على كتفه:
"غفوتُ/ إلى جوار الحزنِ/ فيما صوتُ أجراسٍ وأقداحٍ يدقُّ الرأس من خمسين عام" ص65.
وثمة سمة أخرى لصيقة بالروح الرومانسي للشاعر، وهي التعبير عن قصيدة تدور حول الذات التي يمتزج في كوامنها الوهم والحقيقة: "يا أحبائي/ أعينوني عليَّ/ يا رفاقي/ إنني أهذي/ فخلّوا بين أوهامي وشعري" ص102، إضافة إلى إحساس غامر بالعزلة التي تعدّ موضوعاً أثيراً لديه، ونتيجةً طبيعية للتفرّد الذي يشعر به، هذا التفرد الذي لا يبدو ميزة بقدر ما هو قَدرٌ محتوم، يجعله يختار في إحدى عتبات النص أن يهدي المجموعة "إلى: ع. شبانة في عزلته" ص5 وأن يمشّط شعر تلك العزلة في منفاه، وأن يشتاق إليها، فهي جزء من طفولته أيضاً:
"في طفولته/ قمراً فاتناً كان/ كانت له نجمةٌ للسهولِ/ وأخرى لعزلته" ص31.
إنّها عزلةُ روحِ الشاعر التي تكتنف مدارات الطفولة، وعزلة منفاه التي تعيش في عالم يقف على رأسه في مواجهة رأسِ شاعرِ، يريد أن يقف على قدميه، فتدفعه البداية إلى "قصائد أخيرة" ص7، بدلاً من قصائد أولى، وكأن هذه الإشارة إلى النهايات تعبير مبكّر عن ذلك العالم المقلوب؛ حيث يحتاج الشاعر فيه إلى رأسين: واحدٍ يعبّر به عن ضعفه الإنساني وتدجينه، وآخر يعبّر به عن قوّته عبر نطح صخور العالم، وعبر الإصرار على هاجس الانتماء؛ حيث لا تستطيع قوة في العالم انتزاع أريحا من ذلك الرأس. وفي ظل التضاد القائم بين الرأسين يبني الشاعر قصائده، معبّراً عن عناده في قصيدة بعنوان "ضعف" التي يحتاج فيها إلى رأس "يرعوي/ ويكفّ عن/ نطح السحابة/ والصخور". ص10-11.
هذا التضاد لا يبدو مجرد فكرة طارئة، بل بنية ذهنية تركيبية تحكم عدداً من مُخرجات النص لديه، ففي قصيدة أخرى بعنوان "حرائق"، يقيم الشاعر تقاطباً بلاغياً ومفهومياً بين الحدائق والحرائق منذ البداية:
"حرائقُ/ في جسدٍ/ وحدائقُ في جسدٍ آخرٍ/ جسدٌ في الحدائق يوماً/ وخمسين عاماً/ على صفحات الحريق" ص15.
ويمتد هذا التضاد على مساحة النص، ويفرز تقاطباً جديداً في القصيدة ذاتها (مستفيداً من البلاغة والمفهوم أيضاً) بين الحب والحرب، مستثمراً مفردات ترسم حدوداً جديدة للدلالات، توحّد بين الكلمتين في سياقات لغوية غير مألوفة:
"والحبّ حربٌ بأسلحةٍ من كلام لذيذٍ وهمسٍ ولمسِ/ وتربح فيها الذكورة قيداً جديداً/ وحرب الملوك رصاصٌ لفرض عدالتهم في السجونْ" ص17.
واستمراراً واستمراءً لذلك التضاد تمتدّ أذرع التقاطب اللغوي إلى نهايات تحيل على البداية، مرة أخرى، وتقارن بين حرائقنا وحدائقهم، لتتساءل من ثمّ عن الدوامة التي يعيش فيها الشاعر، لتتضافر بنية دائرية، مع بنية التضاد، من أجل تشكيل دلالة النص في ظل بحث محموم عن دور للقصيدة التي لا تني تلملم موت الحياة في رحلة البحث عنها:
"أيّ دوّامة؟/ ما الذي فعلت بالحياة الرسالاتُ والأنبياء إذن؟/ ما الذي أثمرته الفنونُ../ الحضاراتُ/ والحكماءْ/ وماذا تقول القصيدة وهي تلملمُ موت الحياةْ" ص18.
*          *          *
إن الانغلاق، دون الآخر، سمة من سمات نص الشاعر، وهو ناتج من نواتج العزلة، ومن نواتج رفض الآخر له، ولكن الشاعر هنا لا يبدو الشاعر منغلقاً على ذاته، بل على فلسطينيه برموزها الصغيرة والكبيرة، منغلقاً على أريحا وعلى جدّته وطفولته وثقافته، ومنفاه الخاص، في عالم لا يقيم وزناً للروح.
وهو منغلقٌ أيضاً، في مواجهة مفهوم المدنية إذ تعدّ الآلة أبرز رموزها التي تسعى إلى تشييء الإنسان، وهو يشترك في هذا الأمر مع شعراء كثيرين يرفضون زيف المدينة والمدنية، ويكرّر ما بدأ يتسرب، من الغرب، إلى ثقافتنا العربية:
"آلةً أصبحَ من عشرين عاماً/ آلةً يدخلها المكتبُ/ منذ الفجرِ حتى آخر الليلِ/ وما أدراكَ ما المكتبُ:/آلاتٌ وحيتانٌ ورملٌ ورمادْ" ص30.
وفي ظل هذا العالم المادي يفزع عمر شبانة إلى بيته. وما بيته، في المنفى، سوى أوراقه والقصائد المدماة بعبير الألم، إنه كونه الخاص الصغير الذي يحيل على خزانة وطاولة وسرير، وكونه الكبير الذي يمتد على مساحة روحه وقصائده:
"بيتهُ هو أوراقهُ ودفاترهُ/ في الخزانةِ أو فوقَ طاولةِ الأكلِ/ أو في السريرْ" ص28:
*          *          *
هذا الكونُ الخاصُّ هو، ضمن رحلة بحث الشاعر عن ذاته، بيت متجوّل، أو لنقل إنه بيوت منتثرة في فضاء العواصم، وهي تزداد تنوّعاً وتعداداً وابتعاداً عن بعضها، كلّما اقترح عليه الزمن رحلة جديدة  تمتدّ على مساحة المنفى الذي لا تحدّه سوى جهات العالم الأربع:
"بيتهُ قمرٌ/ يتحمّل وِزْرَ منازله صامتاً/ ومنازلُهُ من نجوم طفيليةٍ/ ترضعُ الضوء من دمهِ/ ونجوم منازلّهِ انتثرت/ في فضاء العواصم" ص29.
ها هنا يتحوّل المنفى إلى نهج، إلى سيرة حياة: فبين منفى الطفولة، ومنفى الكهولة، شباب يلقي بالشاعر من عمّان إلى دمشق، ومن القاهرة إلى الخليج، ومن ثم إلى مدن الصفيح التي تمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بلا نهاية، تعانق سندباد الروح، وهي تهمس في أذنه أنه ما زال يعيش في التيه:
"عشرون عاماً في الحواري/ خمسون عاماً في محطّات القطارِ/ وألف عامٍ في مطارات العواصمِ
كم تبقّى لي؟؟/ وأين؟" ص70.
*          *          *
في رحلة ذلك التيه يتعملق في الشاعر روحُ السندباد، لتبقى صورة العودة هاجساً لديه، يشتاق من خلاله إلى حقيقته الخالدة، إلى انتمائه الذي يتجسّد في التعبير عن رغبة حارة بالعودة إلى بيت متهدّم:
"هو ذا/ منذ خمسينَ تأكُلُهُ ذئبة الوهمِ/ تسرقُ أحلامَهُ/ غيرَ أنَّ الفتى الكهلَ/ يمضي إلى حربِهِ/ ليجدّد صورته/ ويعود إلى بيته المتهدم" 34-35.
إنّ الرغبة في العودة تتجلّى لدى الشاعر من خلال تكرار ذكره لأريحا التي تشكّل ملاذاً لروحه العاشق، فهي مرقد الأرواح، وهي المدينة التي يحمل فيها الأسلاف "الدرع والمحراث/ أو يبنون بيتَ الطين" ص59؛ لذلك فهي تشكّل جذراً مكانياً، وجداراً أخيراً يسند عليه الشاعر رأسه الضعيف:
"وأحبّ يافا/ والجليلَ/ أحبّ رام الله/ والقدس العتيقة/ غير انّي/ لا أرى إلا أريحا/ لا أحجُّ إلى سواها..." 129.
وإذ ينتمي الشاعر إلى أريحا (وضمناً إلى يافا والجليل ورام الله) فإنه يمدّ جذراً آخر نحو القدس، حتى تكتمل صورة الوطن، ويصبح الانتماء أكثر جدارةً بالبقاء إذ تتشبّث جذوره بزيتون القدس ونخل أريحا في آن معاً:
"أمّي زيتونةٌ/ في رُبى القدسِ/ نخلُ أريحا أبي" ص141.
*          *          *
إنّ حديث الانتماء من خلال ذكر أسماء المدن الفلسطينية الأسيرة ليس خيار الشاعر الوحيد للتعبير عن جذوره، فثمة عادات وتقاليد، وثمة شخصيات تعيش في الماضي، وفي حاضر الشاعر الوجداني، مجسّدة ذلك الانتماء في أبهى صوره؛ فيبحث في أحلامه عن نخلة حيناً، وعن جذع زيتونة حيناً آخر، وعن ظلال أهله "الذين يجيئون/ في النوم/ والشايِ/ في نعنع الشايِ/ في البرتقالْ/ ص89، مثلما يبحث عن صورة بيت جدّته، وعن الضيف القادم الذي "يدفش" الباب، ويعدّه الأهل صاحبَ بيت، حيث تهبط من سماء البيت مفارش وأطعمة، يحرم منها الصغار والكبار، من أجل ضيف طارئ، في حوادث مكرّرة تجسّد الكرم الفلسطيني أروعَ تجسيد:
"ومن سماء البيتِ/ فجأةً/ ستهبطُ المفارش الوثيرة/ التي لم يرها من قبلُ/ يهبط الدجاج أجنبياً/ أو غريباً بيننا/ نحنُ الصغار لا نرى/ في مطبخ الجدّة/ غير اللوف والخبيزة" 106-107.
*          *          *
إن الشاعر ها هنا يحتمي بالجذور، حتى يتحدّى الموت القادم إليه من الخلف، وهو يبتدع، بل يتبع، طريقة أخرى لمواجهة الموت القادم إليه من الأمام، فهو يتحدّاه دون وجل، لأنه قد أعدّ في مواجهته حبّاً وشعراً، ولعله قد أفاد هنا من جدارية محمود درويش التي يقول فيها:
"هَزَمَتك يا موتُ الأغاني في بلادِ الرافدينِ/ مسلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتك/ وانتصَرتْ وأفْلتَ من كمائِنِكَ الخلودُ/ فاصنعْ بنا، واصنع بنفسِك ما تُريدُ".
وها هو ذا عمر شبانة يتحدى الموت، ملتصقاً بانتمائه الموغل وراء حدود الزمان والمكان، عائداً إلى سيرته الأولى، مذكّراً ذلك الكائن الموحش، أنه سوف يحيا طويلاً بسبب انتماءاته المتعددة: "أنا أعرف يا صاحبي/ أنني سأموت قريباً/ ولكنني/ سوف أحيا طويلاً/ بشعرٍ وحبٍّ كبيرين/ بالورد والماء/ والطائر المستحيل" ص73 و74.
شأن عمر ها هنا شأن الشاعر الفلسطيني الذي يربّي الأمل، فالأمل خبز الفقراء، وهو مؤنسهم في ليل وحشتهم، وهو الذي كثيراً ما ارتبط بمفهوم "التفاؤل الثوري" الذي شاع في الأدبيات الفلسطينية، معبّراً عن رفض اليأس، مهما كانت الدواعي إليه. يقول عمر شبانة:
"تسعون عاماً/ في انتظار اللانهايةِ/ كم بنيتُ من القصائد/ مركباً يحمي من الطوفانِ/ كم نوحاً سألتُ/ وكم بعثتُ من الطيورِ/ ولم يعُدْ طيرٌ ليخبرني/ ولكنْ/ ما يئستُ/ وسوف ييأسُ/ من غباري الموتُ/ حتى أصطفي وحدي/ نهاياتي/ وأترك للطريق القافلة" ص114.
وإذا كان الشاعر يبحث عن تحدّي الموت في ارتداده نحو جذوره القريبة المتمثلة بجدّته وجده "وما الموت/ إلا ملاكٌ/ يقود خطانا إلى/ بيته لنرى فيه/ أسلافنا الراحلين:/ أرى جدّتي وهي/ تقطف للجد/ تفاحة الكلمات" ص79، فإنه حين يشتد خطر الاقتلاع يبحث عن جذورٍ أكثر رسوخاً في الأرض، فيتحدّى عظمته بالخلود ذاته، بجديه الأكبرين قابيل وهابيل، وبجدّه نوح، وبالمسيح والنبي محمد عليهما السلام، وبشعراء العربية أولئك الذين عاشوا في ذاكرة الأجيال، ويرى في هؤلاء جميعاً تكراراً حيويّاً يعبّر عن عيشهم المتجدد، والنص التالي جزء مما يرى الشاعر في الموت:
"أرى الشنفرى/ وامرأ القيس/ هذا يحاول ملكاً/ ويسفح للأمر يوماً/ وللخمر أيامه الباقياتِ/ وذاك يوزّعُ كفّيه بين الصعاليك.. والبؤساء/ ويستأنس الوحش" ص81.
*          *          *
يمكن أن نقول باختصار أنّ عمر شبانة أعاد لنا في "رأس الشاعر" صياغة روح الإنسان الفلسطيني، وجسده على شكل قصائد، تحيل من خلال كهولة الجسد على طفولة الروح المتجدد جيلاً بعد جيل:
"من كنتَ في الخمسين؟/ طفلاً في الكرامة؟/ يكبر الشّبلُ المتيّم بالبراءة بين أشبال الرصاصِ/ كبرتُ أهذي بالذي يجري وراء النهر.." 162- 163.
وها هنا بالضبط اقتربنا من روح الشاعر، واقترب من روحنا، إذ بقي مشغولاً، مثلنا، بما يجري وراء النهر، لأن واء النهر ما وراءه: جَدٌّ وجدَّةٌ وبيتٌ ودموعٌ، وسهولٌ وجبالٌ لا تملّ الانتظار.

تعليق عبر الفيس بوك