حتى نضمن بيئة سياسية صالحة لأجيالنا القادمة (2)

 

د. راشد بن علي البلوشي

 

ولكن عالم اليوم يأبى أن يكون عالم الأمس. فالعالم اليوم (البيئة السياسية والاقتصادية العالمية) عالم معقد جدا، عالم يصعب فيه البقاء على الحياد، إلا لمن ألهمه الله الحكمة ليبقى بعيداً عن أطماع الآخرين والطمع في ما عندهم. ولذلك وجب علينا جميعاً مواجهة التحدي وهو استدامة الاستقرار السياسي (العيش في سلام وأمان في عالم مضطرب) من خلال المحافظة على مواقفنا الثابتة خارجيًا، وكذلك المحافظة على مستويات تنموية تتناسب وموارد البلاد وثرواتها وعدد سكانها، حيث إنَّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي من أهم أسباب الاستقرار السياسي. كل ما تقدم معلوم للجميع ولا يختلف عليه اثنان، والتذكير به ليس هو الهدف من هذا المقال. حيث إننا لا نقول ما قلنا من باب التباهي بحاضرنا (و جلب الحسد، لا قدّر الله) ولكن من باب التذكير بعوامل قوتنا كشعب ودولة والتنويه بأن واجب المحافظة على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي يقع على عاتق الجميع، كل بحسب ما توفر له من أسباب وقدر له من موارد وإمكانيات. ولم يغب ذلك من خطاب جلالته الأول، فبعد أن وعدنا بأنه سيعمل من أجل مستقبل أفضل، قال: "و على كل واحدٍ منكم المساعدة في هذا الواجب." ولذلك كان هذا النداء من جلالته من أجل إيجاد أسباب استدامة هذا الاستقرار الذي نتميز به اليوم في عالم مضطرب.

ولكن الآن، وبعد أن اكتشفنا بأن مواردنا الطبيعية وحدها لا يُمكن أن تضمن لنا الحياة التي ننشدها لنا ولأجيالنا القادمة (نتيجة لانخفاض أسعار النفط واحتمال تحول العالم إلى مصادر الطاقة النظيفة مما سيقلل من أهمية النفط والغاز)، فإنَّ التحدي هو السعي بكل مكونات وموارد المجتمع العماني للمساعدة في "واجب" توفير أسباب العيش الكريم والعدالة الاجتماعية للمواطنين كونه السبيل الوحيد لدرء أسباب التفاوت الاجتماعي والتمييز والاختلاف والفرقة والعنف. وبمعنى آخر فإنّ التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية هي السبيل إلى تحقيق الاستقرار السياسي، من خلال درء العنف والاضطرابات التي يمكن أن يولدها الفقر والتفاوت الاجتماعي. حيث أسس جلالته لمبادئ العدالة الاجتماعية وكذلك العدالة القضائية (الجميع متساوون أمام القانون)، فأخذ كل واحد ما يستحقه بحسب عمله واجتهاده. (لا نقول هنا بأنّ الوطن لم ولا يُعاني من الفساد في بعض الدوائر، ولكن البت في ذلك ليس من اختصاصنا، وليس موضوع المقال على أيّ حال).

و خير دليل على أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي السبيل إلى الاستقرار السياسي هو أن كل الدول (أو على الأقل معظم الدول) التي تشهد أو شهدت اضطرابات سياسية وعنفا وتعصبا وتجاهلا للقانون وإرهابا كانت قبل ذلك (و معظمها لا يزال) يشهد عدم استقرار اقتصادي واجتماعي (من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، والفساد، وقلة الوظائف، وتحكم فئة قليلة من أبناء الشعب بالثروة وكذلك بمصائر السواد الأعظم من أبناء الشعب، وغياب الاهتمام بالموارد البشرية والاستغلال الأمثل لطاقات الشباب ومعارفهم ومهاراتهم، وتصرف الأجهزة الشرطية والأمنية بدون محاسبة، والاهتمام بحماية الأنظمة من الشعوب بدلاً من الاهتمام بالعوامل التي ترغب الشعوب في الخطط التنموية للأنظمة وتشجعهم على التعاون معها ومساندتها) وغيرها من مظاهر تكريس الإحساس بالظلم الاجتماعي والقضائي لدى عامة الشعب.

وإذا علمنا أنّ قدرة الحكومة (في جميع بلدان العالم، حتى الدول المتقدمة) على التوظيف والتشغيل محدودة، فإنّ مسؤولية، أو "واجب"، المحافظة على استقرارنا الاقتصادي والاجتماعي (والذي هو السبيل إلى المحافظة على الاستقرار السياسي) تقع على مؤسسات القطاع الخاص بفئاتها المختلفة (صغيرة أو متوسطة أو كبيرة أو عالمية). فقد قدمت الدولة للقطاع الخاص على مدى أكثر من أربعة عقود من التسهيلات والتمكين والدعم ما أهله للوصول إلى ما هو عليه الآن. ولذلك فإنَّ على مؤسسات القطاع الخاص (ورجال الأعمال من أبناء الوطن والمُقيمين فيه) المبادرة بالاستثمار فيه حتى يخلقوا فرص عمل للآخرين وذلك حتى يعم الرخاء، وهو الشيء الذي يصعب تحقيقه عندما يدق ناقوس الفقر وتزيد الهوة بين الأغنياء والفقراء في البلاد. وما يُثبت أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي السبيل للاستقرار السياسي هو قيام دول شمال المتوسط بالتفكير الجدي في إقامة مشاريع تنموية وتشغيلية في دول جنوب المتوسط لتجنب الهجرة غير الشرعية وما يُرافقها من عنف وإرهاب لم تستطع أفضل وأقوى أجهزة الأمن في العالم التصدي له. ولهذا فإنّ مؤسسات القطاع الخاص، بجميع فئاتها، مطالبة بالقيام بدورها في استدامة أسباب العيش الكريم في المجتمع العماني.

أستاذ اللغويات المساعد جامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك