عبيدلي العبيدلي
رُبَّما يختلف الكثيرون حول أسباب الأزمة السياسية التي تكاد تعصف بالمنطقة الخليجية، لكن ليس هناك اثنان يمكن أن يختلفا على أنَّ الخليج العربي يعاني من أزمة مفصلية تتوزع على ثلاثة محاور رئيسة، اقتصادية واجتماعية وسياسية.
فعلى المستوى الاقتصادي المحض، هناك التراجع المفاجئ، على المستويين الزمني والسعري، في أسعار النفط، الذي وجه ضربة قاصمة للسيولة النقدية التي كانت تنعم بها دول مجلس التعاون الخليجي، وكانت تقف وراء النمو المستمر الذي نعمت به المنطقة خلال الثلاثين سنة الماضية. ترافق هذا التراجع في المداخيل مع نزيف متواصل ومتصاعد في آن بفضل المعارك العسكرية التي عمت المنطقة العربية، ولم يكن في وسع الدول الخليجية أن تكون بعيدة عنها لظروف كثيرة ليس هنا مجال سردها. وازداد الأمر سوءا عندما جاءت استحقاقات برامج مجموعة الرؤى الاستراتيجية التي تبناها عدد من دول الخليج العربي. تظافرت مجموعة العوامل على نحو متلاحق، وفي فترة قصيرة نسبيا بالمعيار الدولي، مما أدى إلى وضع المنطقة الخليجية برمتها أمام تحديات مصيرية لم تعرفها من قبل في تاريخها المعاصر.
وعلى المستوى الاجتماعي، تعرض النسيج المجتمعي الخليجي، على الصعيدين، الإقليمي الشامل، والقطري المنفرد، لتحديات اجتماعية أفرزتها الصراعات التي عمت المنطقة العربية خلال الست سنوات المنصرمة، وتمظهرت في نزاعات قطرية، كادت أن تصل إلى صدامات عسكرية من جانب، واصطفافات طائفية نجحت في تمزيق عمودي لبنية المجتمع الواحد، وهي ظاهرة لم تشهدها المنطقة، وعلى هذا المستوى من الانتشار الافقي والتموضع العمودي من قبل، في تاريخها المعاصر في الحدود الدنيا.
وعلى المستوى السياسي، تعرض هيكل مجلس التعاون الخليجي لشرخ عمودي قابل للاتساع في بنية علاقات أعضائه البينية؛ مما وضع الجميع أمام تحدٍّ غير مسبوق لم يعرفه ذلك الهيكل منذ تأسيسه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وأدَّى ذلك إلى إحداث شلل ملموس في العديد من المشروعات الإستراتيجية التي كانت على طاولة العمل الخليجي المشترك. وأدى ذلك إلى مواجهة أطول تجربة وحدوية عربية خيارات مصيرية تتعلق بمستقبلها.
كان لا بد من هذه المقدمة القصيرة المكثفة، قبل الوصول إلى لب الموضوع، وهو أن البحرين كانت من أكثر الدول الخليجية تأثرا وتضررا من هذه الأزمة، بفضل مجموعة من الخصائص البحرينية الذاتية: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ليس هنا مجال تناولها، لكن من الخطأ القفز فوقها، او عدم أخذها في عين الاعتبار عند العمل للخروج من هذه الأزمة، على المستوى البحريني.
هذا بدوره يُؤكِّد حاجة البحرين، أكثر من سواها من دول الجوار، إلى رافعة تاريخية فاعلة قادرة ليس على معالجة الأوضاع غير الصحية التي أفرزتها تلك الأزمات المتلاحقة فحسب، وإنما تنتشل البلاد من أزمتها وتضع أقدامها على الطريق الصحيحة التي تعالج جذور الأزمة وأسبابها الرئيسة، بدلا من إضاعة الوقت في التصدي الشكلي والسطحي، لأعراضها الخارجية.
الخطوة الأولى على هذا الطريق هي خروج مكونات العمل السياسي كافة من شرنقة توجيه هذا الطرف اللوم ل للأطراف الأخرى، وإعفاء نفسه من أية مسؤولية قادت البلاد نحو الواقع الذي تعاني منه اليوم. فكل عنصر من تلك المكونات مسؤول بشكل أو بآخر، على نحو مباشر أو غير مباشر، عما نحن عليه اليوم، ومن ثم فمن منا بلا خطيئة يحق له أن يرمي الآخرين بالحجر الذي يختاره.
ومادمنا اتفقنا على مسؤولية مكونات العمل السياسي عن الحال التي وصلت إليها البلاد، فقد بات الجميع مطالبا بان يفكر خارج الصندوق، كما يقال، ويجتهد كي يأتي بالحل، ليس السحري، وإنما المنطقي والقابل للتنفيذ، لذي يحقق الهدف الأسمى القادر على بناء المجتمع الذي يضمن السعادة حاضرا والتفوق والتقدم مستقبلا.
وربما تكون الخطوة الثانية هي التفكير في تشكيل ما يمكن أن يوصف بـ "الكتلة الوطنية"، التي لا تعني تجريد الآخرين من وطنيتهم، ولا التفرد بهذه الصفة، بقدر ما المقصود منها أن تكون البوتقة الحاضنة لمجموعة من المتفق عليها من مكونات العمل السياسي البحريني، مضافا إليها مجموعة رائدة وذات ثقل مهني من منظمات المجتمع المدني كي تخرج بصيغة تنظيمية مرنة تحصر مهمتها في إيصال البلاد، بعد نيلها ما يشبه الإجماع على ثقة تلك المكونات، ما يمكن أن يساعدها على الخروج بحل، هو الآخر منطقي وقابل للتنفيذ لتحقيق الانتقال من مرحلة الأزمة إلى حالة حلها.
وتحاشيا للتوه في دهاليز الاختلافات التي ستصل إلى درجة عالية من البيزنطية وعدم الجدوى، لعل من الأجدى بعد الاتفاق الوطني على من سيشكل تلك الكتلة الوطنية، أن تتجه تلك الكتلة نحو ميثاق العمل الوطني، الذي جاء به المشروع الإصلاحي، كونه الوثيقة الوحيدة التي تحظى بشرعية الإجماع الوطني، وتأخذ بها كأرضية صلبة للانطلاق نحو الهدف النهائي الذي أشرنا إليه.
قد تبدو الصيغة المقترحة طوباوية، وقد يعتبرها البعض نوعا من الهروب نحو الأمام خشية مواجهة الواقع المرير الذي نعيشه، لكن لو حاول من يوجه هذه الاتهامات البحث عن صيغة مناسبة، وأكثر حظا من نيل قبول نسبة عالية من مكونات العمل السياسي البحريني من سواها من المشروعات الأخرى، سيكتشف أن العودة لهذه الصيغة هي الأقرب لنيل القبول، والأكثر قدرة على امتلاك مقومات النجاح أيضا.
وهنا ينبغي التحذير من مسألتين أساسيتين هما:
- أن تشكيل الكتلة الوطنية ليس هدفا في حد ذاته، وإلا سنعود مرة أخرى للوقوع أسرى في قيود دوائر العمل التنظيمي الضيقة.
- أن تشكيل تلك الكتلة الوطنية ليس الحل السحري الذي قد يتوهمه البعض، بقدر ما هي خطوة متقدمة على طريق وعرة ومصعبة ومعقدة، وهو اول ما سوف يدركه ويواجهه أعضاء تلك الكتلة عندما ترى النور.
تشكيل هذه الكتلة الوطنية سيكون حبلَ الإنقاذ المطلوب الذي سينتشل البحرين من غياهب الجب الذي يحاول أعداؤها أن يرموها في قعره.