مأسسة المسؤولية الاجتماعية.. رهانات وطن بأكمله

د. عبدالله باحجاج

هل يَنْبَغي أنْ نحتفظَ بنفس الأفكار السياسية التي أطَّرتْ وأنتجتْ وحدَّثتْ بنيات الدولة والمجتمع طوال العقود الماضية، وتحديداً حتى مُنتصف العام 2014؟ الاستمرار فيها سيكون مُرتبطا باستمرار نفس الظروف والمعطيات والإمكانيات التي حتَّمت تبنيها آنذاك؛ فهناك علاقة وجودية بَيْن التنظير والواقع، وأيُّ اختلال في الأول، سيتأثر به الواقع فورا. ومن هنا، يستوجب دائماً المراجعة والتقييم، ومن ثمَّ الإصلاح الملائم، وفي الوقت المناسب.

فهل فعلاً لا تزال العلاقة الوجودية بين التنظيرات والتأطيرات السابقة مُلائِمة لواقعنا المتغيِّر؟ الاجابة قد أصبحتْ معلومة بالضرورة؛ فهناك انفصالٌ مُطلق للكثير من الأفكار السياسية، ولم تعُد صالحة لتأسيس مرحلتنا الوطنية المقبلة، فلماذا لم يحدث التحديث أو إصلاح البنية الفكرية السياسية لكي تتناغم مع الواقع المتغيِّر؟!

من التساؤل الأخير، يُمكن القول صراحة: إنَّ مُعظم التحديات التي ستواجه بلادنا خلال المستقبل القريب، ستكون مرهونة بمدى استيعابنا للحظة الفارقة التي نشأت في منتصف العام 2014 ومستمرة حتى الآن. وتلكم لحظة اهتزَّت من خلالها أوضاع بلادنا المالية حتى الآن، مع الفارق الكبير بين سعر النفط 28 دولارا إبان اندلاعها و50 دولارًا حالياً، وستظهر انعكاساتها الاجتماعية خلال المدى المنظور. وهذا يعني أنَّه ينبغي الإسراع في تطوير وتحديث فكر إدارتنا السياسية للمجتمع، ويكون حاكم خياراتنا فقط المعادلة التالية: أيُّهما الأفضل للمجتمع مع الأقل ضررا على الدولة؟! لن نجد أيَّ خيار متاحاً الآن، إلا وفيه نسبة ضَرَر مُحتملة، والأهم: ليس في نسب الضرر، وإنما كيفية العمل على إدارتها لتقليل حجم مخاطرها، في إطار التشريعات والقوانين والرقابة الفعَّالة؛ فتحديات الأزمة النفطية، والمخاطر الجيوسياسية تقلص من خيارات البلاد، وتحصرها في ذاك الخيار المركَّب.

فإذا كانتْ المرحلة السابقة تقضِي برفض بعض المسارات الاجتماعية لوجود نسبة مخاوف فيها، فإنَّ المرحلة الراهنة، تُلْزِمنا أن نُعِيد قياس هذه النسبة، ومقارنتها بنسبة المخاطر الجديدة إذا لم نحرِّر إدارتنا للمجتمع من الكثير من الخطوط الحمراء التي كانتْ تُمْلِيها ظروف مرحلة ما قبل تلك اللحظة، ونجحت الدولة -الحكومة- من خلالها بسبب قوَّتها المالية، واحتكارها للثروات والنفوذ. أمَّا بعد هذه اللحظة الفارقة، فإنَّ الدولة -الحكومة- لن تتمكَّن كما كانت تنفق على كامل الخدمات الاجتماعية والتنموية، فأيُّهما الأهم: الانفتاح الإيجابي على ما كان محظورا، وإدارة مخاوفه بقوة القانون، وقوة الرقابة المؤسساتية، ومهنية وفاعلية القضاء، أم نتفرَّج على تآكل المجتمع، وضعف شرائحه المختلفة؟

هنا، تقتضي الصَّراحة استنطاقها بصَوْت مُرتفع، وهى أنَّ القراءة السياسية المتأنية لمستقبلنا الآمن، تحتِّم الرِّهان على الكيانات غير الربحية، وتفعيل دورها التنموي والخدمي كشريك إستراتيجي حتمي لا غِنَى لبلادنا عنه الآن، وهو جاهز، ببناه الفوقية، وإمكانياته المادية، وقد أشرنا إليه في مقالنا السابق المعنون "الزرعي أنموذجا للشراكة مع الحكومة.. ولكن!"، وكذلك أخضعناه تحليلاً مُستفرداً في مقال مُعمَّق منشور إلكترونيا تحت عنوان "المسؤولية الاجتماعية.. في عصر الضرائب"، وهناك نماذج كثيرة للكيانات غير الرِّبحية؛ مثل: مؤسسات الوقف والزكاة، وشركات المسؤولية الاجتماعية، والجمعيات الخيرية.. وهذه تُشكِّل بدائل جاهزة لسد الفراغ، أو لدعم دور الحكومة التنموي والخدمي للمجتمعات المحلية؛ مما يُظهر لنا هنا المجتمع المحلي كأولوية سياسية تظهر فوق السطح، بصورة غير مسبوقة، ولا يمكن مواجهتها إلا عن طريق مثل هذه الكيانات غير الربحية في عصر الضرائب والرسوم المقبل.

وإذا كانتْ مثل هذه الكيانات غير ربحية لم تظهر أهمية وجوديتها في الحياة الاجتماعية في عصر الاقتصاد الريعي، فإنَّ تداعيات تحوُّل اقتصاد بلادنا من الريعي إلى الجبائي تحتِّمها، وتصبح مخاوفها الآن أقل بكثير من عدم وجودها؛ فالحكومة لن تكون قادرة على الإنفاق التنموي والخدمي لوحدها؛ وبالتالي هى في أمس الحاجة لمثل هؤلاء الشركاء الجاهزين، والرسالة العاجلة التي نأمل إيصالها إلى كلِّ النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، مُفادها: أنَّ الرِّهان ينبغي أن ينصب الآن على الدور الاجتماعي للشركات والقطاع الخاص والفاعلين الاجتماعيين، ليس فقط بسبب الأزمة النفطية، وتحولنا إلى الاقتصاد الجبائي، وإنما بسبب تحول الكثير من مرافق ومشاريع الدولة إلى ملكيات خاصة عن طريق الخصخصة -والقادم أكبر- وتلاقِي الأزمة مع الخصخصة، يحتم تنظيرات وتأطيرات جديدة للحفاظ على المجتمع.

ومِن بَيْن أهم التنظيرات الجديدة: مأسسة المسؤولية الاجتماعية، تحدَّثنا عن مؤسسة الوقف في مقالٍ سابق، وطالبنا بالتحوُّل المؤسساتي للزكاة، ونقف هنا -في هذا المقال- استكمالا وتوضيحا لمبادرة تأسيس شركة خاصة ومتفرِّغة للمسؤولية الاجتماعية، وهى شركة قد تجاوزتْ الموافقة الرسمية والانتساب لغرفة تجارة وصناعة عُمان، والآن نتطلع لمباركتها من قبل وزارة التنمية الاجتماعية، وهى ستكون أكبر الدَّاعمين والمكمِّلين لدور الحكومة؛ فهذه الشركة ستكون مثل الشركات التجارية الأخرى، تستثمر أموالها في الأنشطة التجارية، لكنها تختلف عنها في أنَّها غير ربحية، وأنَّ أرباحها لن تُوزَّع على مُلَّاكها أو المساهمين فيها، وإنما على الأهداف الاجتماعية والتنموية التي أنشئت من أجلها، فكلُّ استثماراتها ستكون مُوجَّهة للفقراء ولأصحاب الدخول الضعيفة، وهذا تحوُّل غير مرئي، لا يُمكن استيعابه إلا بشيء من التعمُّق في مضامين التحوُّلات والمتغيِّرات الراهنة.

وماذا يَعْنِي هذا؟ يعني أنَّ شركات المسؤولية الاجتماعية لن تُغْنِي عن الجمعيات الخيرية؛ فلن يُسمح لها بتلقِّي التبرعات ولا الصدقات، كما لا يُمكنها إنشاء وقف مثل الأفراد العاديين، كما لا يُمكنها الاندماج مع شركة تجارية أخرى، إلا إذا كانت غير ربحية.. وهذا النوع من الكيانات غير الربحية مُنفصل تمامًا عن الكيانات المعنوية الأخرى التجارية، أو التي تعمل في العمل الخيري.

ويعني كذلك أنَّه سيكون من الخطأ النظر للفئات الاجتماعية المختلفة على أنها حالة لا يُمكن التعامل معها إلا من قِبَل الحكومة، وهذا سيكون من أكبر الأخطاء التقديرية، والأصح: أن تُصبح من مسؤولية الشركات ورجال الأعمال وبقية الفاعلين الآخرين. وبالتالي؛ فإنَّ بلادنا تحتاج إلى خارطة طريق للشركات غير الربحية لمساعدتها على مأسسة المسؤولية الاجتماعية، لنقلها من حالة الفردانية، ومد وجزر العواطف، إلى العمل المؤسساتي والتمويل المستدام، وكذلك ضمانة عدم قيامها بأية أنشطة سياسية، أو دينية، أو أيديولوجية، أو طائفية...الخ. لذلك؛ لابد لها من رؤية سياسية، ورسالة واضحة، وتشريع محكم ورقابة مؤسساتية فعالة، ومن ثم إطلاق اليد لهذه المؤسسات غير الربحية لأن تدعم الأنشطة الإنسانية والثقافية والتعليمية والصحية، التي تعُوْد بالنفع العام على المجتمع. وقلنا في مقالٍ سابقٍ: إنَّ هناك حالة فراغ ستنشأ خلال السنتين المقبلتين، نتيجة النقص المالي الحكومي، وسده عن طريق الضرائب والرسوم، إذا لم يُشْغَل هذا الفراغ، سنجد لها بالمرصاد عَبَدة الأجندة المشبوهة، وربما هذه المخاوف، وربما كذلك الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، تقفُ وراء دافعية شخصيتين بارزتين في إقامة شركة للمسؤولية الاجتماعية (ش.م.م)، وننتظر: كيف ستترجم دَوْرها الاجتماعي الذي قرَّرت التفرُّغ والتخصُّص له؟ وإذا لم ننفتح على مأسسة المسؤولية الاجتماعية، وتشجيعها، فقد نحاكم الوعي السياسي على الاختلالات البنيوية التي ستحدُث بسبب قُصُوْرِه في استيعاب اللحظة التاريخية الفارقة وتحدياتها منذ الآن، فليس هناك بديل سوى الرِّهان على الكيانات المعنوية غير الربحية!!