العمران الإنساني والفضيلة الاجتماعية (1)

أ.د/ علي ثويني - خبير المعماري باليونسكو - السويد


جرى إخضاع مصطلح "المدينة والتمدن" لمراجعة تتعدى وجود أو عدم وجود منشئات وصروح معمارية أو سمات فنية وطرز بعينها وأُطر مرئية ومادية ملموسة، وحري بنا البحث والرصد لعلاقة أنماط سلوكية بعينها مرتبطة بالتمدن وبالشفرات الثقافية والروحية للاتصال والتلاؤم والاتفاق والانسجام البشريّ الشامل. ونستند في ذلك إلى حقيقة أن الإنسان مسجى على البحث عن فضيلة تائهة، وكأنه ينقِّبُ عن فطرته  الأولى، وديدنه المتواتر خلال الأزمنة والأمكنة، وكأنه إغواء وحنين ماضويّ (نوستالجيّ) لعالم مفقود، يسعى لاستدراكه. ونقرأ أغرب تلك الهواجس عند السومريين، حيث أشار طه باقر إلى: (أن العراقيين القدامى تصوروا أنفسهم حديثي عهد بالحضارة والمدنية، وأنهم كانوا وارثي ماض بعيد، مجيد، تخيلوه على أنه "عصر ذهبي"، وكان السلام والوئام يسودان العالم فلا خوف ولا حزن ولا بغضاء، وكان الخير والرفاه يعمان البشر، والفضيلة  (اليوتوبيا) وهي مركب في اللغة اليونانية ظهر في عصر النهضة  الأوربية بصيغة (Ou topia) ومعناه مكان لا على التعيين، بما يعني المجتمع القدوة، والنموذج الأسمى للتجمع البشري.
لقد مكث الاهتمام بقاطني المدن وقيمهم سياقًا في الفكر الإنساني السابق واللاحق  للإسلام، وتاق الإنسان للبحث عن النموذج الأرقى، وسعى لتطبيقه وتمخض الأمر عن (المدينة القدوة)، التي نجد أقدم إشارة لها في شرائع (أور- نمو) السومريّ  ضمن سياقات تنظيم الدولة ( 2111 ـ 2103 ق. م)، وذلك قبل قانون حمورابي في بابل (1728-1686ق. م) .
 وتشير نصوص عراقية قديمة إلى السبب في سقوط مدينة (أور)، واحتلالها وتدميرها من طرف العيلاميين القادمين من إيران، رغم سمات القداسة التي أحاطتها، فقد تمَّ تبرير سقوطها بأنه سخط إلهي، والأمر ليس راجعًا  لقوة العيلاميين أو شكيمتهم وعددهم، بقدر ما هو تعلُّقٌ بسخط الآلهة (انليل) بعدما أساء أهلها الأخلاق، وتجردوا من الفضيلة، وهكذا فإنَّ العيلاميين لم يكونوا سوى وسيلة في يد آلهة الريح التى استخدمها لتنفيذ قضاء وقدر (أور) وشعبها. ونجد السياق نفسه ورد في النصوص التوراتية المنسوبة للنبي حزقيال، وتبشّر بأورشليم الجديدة على أنقاض أورشليم الفاجرة، وعلى غرارها الواردة في مواضع عدة من القرآن.
والفضيلة وردت عند كونفوشيوس(551-479ق:م)، فيلسوف الصين، وقد أشاد بالقيم التي تكرسها حكومة تخدم الشعب. واعتقد بأن العصر الذهبي للإنسانية كان في الماضي. وقد اشتدت معارضة الحكام له بسبب نقده اللاذع للطغيان، حتى إنّ ملوكا قرروا حرق كتبه. واستمرت فلسفته تتحكم في الحياة الصينية قرابة عشرين قرنًا، والسبب بساطتها وتماهيها مع العقلية المحلية، ونأيها عن الإكراه المناقض لطبيعتهم الوادعة التي لم يستسغها التوجّه الثوريّ الشيوعيّ للصين خلال (الثورة الثقافية) عام 1961م.
وقد شاع عن أفلاطون الأغريقي (427 ق.م - 347 ق.م) بتوجهه الأخلاقي في (جمهوريته) من خلال محاوراته (طيماوس) أو (أكريتس)، وحسبنا أن مددها أتاه من ميراث الشرق القديم. وأقر أفلاطون مشاعية النساء والأولاد، ودعى إلى امتناع الحكام والجنود عن الزواج قصد التفرغ لأمور الحكم والحراسة. وصنّف الناس إلى صفوة من الفلاسفة والعلماء ومن يفشل منهم يصبح سياسيا، ومن يفشل من هؤلاء يصبح عسكريا‏.
وجدير أن نشير هنا إلى أن فكر أفلاطون مكث مهمشا في الفلسفية الإسلامية على عكس أرسطو. كون أفلاطون جمهوري، والنظام السياسيّ العام السائد بعد الحقبة الراشديّة كان ملكيا محضاً يخص سلالات وراثية، وهذا سببا كافيا لأن تكون المدينة الفاضلة الإسلامية ملكية الطابع.
وجاء أبو نصر الفارابي (260 ـ-339 هـ/874 -950 م) وبحث في الأمر بكتابة (آراء أهل المدينة الفاضلة).وأقرَّ (أبو الريحان محمد البيروني 973 -1048 م) بأنّ الكائن العاقل المؤهل للإدراك كان في بادئ الأمر يعيش في عزلة ولا ينعم بالتمدن، ولكن استعداده العقلي حمله على الإقلاع عن تلك الحياة والإقبال على التمدن. لكثرة حاجاته وتعريه عن آلات الدفاع أمام قوة الأعداء. وبذلك يمكن أن يصنَّف البيروني من القائلين بالعقد الاجتماعي ضمنا قبل (توماس هوبز 1588-1679م)، و(جون لوك 1632-1704م)، و(جان جاك روسو 1712-1778م). فقد كان وسيلة للعدول عن حياة العزلة والحرية والتوحش إلى حياة الاجتماع والعمل، وتقسيم نظامه الذي أفقده الكثير من حرياته، وروَّض أنانياته وكبح غرائزه، مقابل أمان وتعاضد واستئناس مع نوعه. وذهب البيروني إلى أن التحزُّبَ والخلاف خصيصة طبيعية من خصائص الاجتماع وجزء من سنن الله في خلقة، وإن وراء ذلك غاية أساسية هي الحيلولة دون تفرد الأفضل في السلطة على توليته الأمر ومساواة العامة في الخضوع لأرادته لا يعقبها سوى الهلاك شأن كل مجتمع يخلد للخضوع المطلق لأرادة حاكم مستبد.
ولابن رشد رأي يلخصه في كتابه (الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون)، ويقارن مع الوضع السائد حينئذ، حيث اكتست ديمومة المدينة رغبة إنسانية دائمة،  لمقاصد حفظ النسل والأثر وتجسيد المكارم التي تعدّ مصدر فخر وشرف. فخلاء البادية وقربها من الطبيعة المتوحشة الأولى لايمكن أن تكون فضاءًا مثاليا لتحقيق ذلك. فالبداوة لاتعني الفطرة الأولى بقدر كونها أسلوب عيش يعتمد الحياة الرعوية، وتترتب عليه هواجس ومفاهيم رصدها ابن خلدون. إن الإنسان الفطري أكثر قربا للمكارم، ويمكن أن تكون تراكم وتراكب الوسائل تبعده عنها. بيد أن سطوة الغريزة على الأعرابي متأتية من بيئته الشاحّة البائسة يقابلها رغبات نفس بالعيش الكريم والتملك، فيصبح في جدليتها (وهَّابًا ونهَّابًا).
وقد صف ابن رشد الصنف الخامس من أنظمة الحكم وهو حكم الطاغية Tyranny (يصطلح لها ابن رشد ("وَحْدَانيّ التسلط")، وقد أمسك رأس الحقيقة في زمانه واستمر الحال حتى أيامنا الحاضرة. ولا يمكن أن نصنِّف مجتمعًا ما على إنه مجتمع طالح وآخر صالح بعيداً عن الظروف والأسباب المتراكمة التي أدت به لذلك، فكثرة الحروب والجهل والفقر والاستبداد، عوامل تُشكِّل ثقافة عامة لدى المجتمع تجعل منه ينظر إلى ظاهرة الفساد داخل مؤسسات الدولة حالة  طبيعية، لا بل إن السلوك الفاسد يبرر التهافت ويهب الحظوة، ويعده جزءًا من حقه الطبيعي!! .
فعـندما اشتـدّت الأزمـة في المدينة المنـورة على الخليفة الثـالث (عـثمان بن عـفـان – قتل 35 هـ/656 م) من قبل أبـناء الصحابة من مختلف الأمصار الإسلامية، والتي عرفت بـ (الفتنـة الكبرى) كان الإمام عـلي بن أبي طالب يقـول: (اللـّهمَ زدهـا حتى يخـرج الخبيث من الطيـّب والطيب من الخبيث). وثَمَّة تفسير فلسفي لتلك الظاهرة بالإنگليزية (catharsis) ويعني التطهير الفكريّ أو الأخلاقي أو الصفعة، ونسميه إسلاميا (النازلة) وهي  آلية داخل التكوين البشريّ تستحضر تلك الحالة كلما زاغ المجتمع الإنساني عن مسلك القيم الحقيقية ويتداعى إلى التضحية والنزف الذي يكون مرهونا بقدر التمادي في الغي، ومن ضمن سياقات كونيّة للميزان وإصلاح الذات من الذات. وربما ينطبق على (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وهذا يعني أن المجتمع حينما يضلُّ سراطه ويسري وراء الجشع وفرط الأنانية، يعمُّ الخراب، ولايبدو ملاذا في الأفق في هذا البحر المتلاطم، حتى يلجأ الناس إلى الزناد، الذي يكلف المجتمعات الشئ الكثير من الزفرات والأسى، وعندما تكلُّ النفوس تكتشف كم كان مغررًا بها، وكم هي عزيزة الحياة البشرية.

تعليق عبر الفيس بوك