وقفة مع حقوق الطفل

عزيزة الطائيَّة

يقفُ الكاتبُ والروائي الفرنسي ألكسندر دوما Alexandre Dumas، مستنكرًا من الحال التي يؤول إليها الإنسان حين يشتد عوده، ويصل -دوما- إلى حقيقة جديرة بالفحص والتشخيص عند تقويم البرامج التعليمية ومخرجاتها، واضعًا أمام بصرنا، مستجليًا بصيرتنا، أنْ لا سلاح لأي أمة من الأمم إلا بالتعليم، وهو في هذا يوجه خطابه بمقولة تضع الدواء على الجرح، متسائلًا: "كيف يكون الأطفال في غاية الذكاء؟ والرجال في غاية الغباء؟! لا بد أن السبب هو التعليم".. ولعل معاينة هذه الإجابة، كفيلة بإدراك تراجع فكر الإنسان مع تقدم عمره، وجديرة بتسليط الضوء على قصور التعليم المبرمج والفاعل والمخطط بما يتلاءم مع حاجات المجتمع عند بناء الجيل لغايات التربية الحديثة بما تنشده الأمم الراقية. وإذا سلمنا بأن التعليم وسيلة تربوية قوامها صناعة الإنسان معرفيًّا ونفسيًّا وجسديًّا يتحتم على السياسة التربوية إيلاء حماية حقوق الطفل ومناصرتها وتتويجها من أجل مستقبل أفضل بمساعدة هذا الكائن الغض إلى تلبية احتياجاته الأساسية، وتوسيع الفرص المتاحة له بهدف بلوغ الحد الأقصى من طاقته وقدراته بما يلازم طبيعته وتطويره وتنميته المنسجمة بالكرامة الإنسانية، وهذا كله لن يتأتى إلا بتنظيم المعايير التعليمية وبرمجتها بما هو كفيل برعايته صحيًا وتعليميًّا ونفسيًّا، وضبط الخدمات المتعلقة بنشأته الاجتماعية والمدنية والقانونية.

يحتدم الجدل في الوقت الراهن بشأن أهمية إثراء منظومة المناهج التعليمية بحقوق الطفل وواجباته، وذلك لتنمية الوعي القانوني مع مستوى نضجه وإدراكه، ولضمان وعيه بأهمية معرفة القوانين والالتزام بها، والعمل في إطارها؛ باعتبار المستقبل صناعة تربوية تقودنا إلى تأسيس بيت خبرة مهتم بإعداد جيل قادر على التعامل مع الظواهر والقضايا والمتغيرات التي تجتاح العالم، والوعي بإستراتيجيات التغير الاجتماعي المعمول بها في مثل هذه البرامج العالمية، لتمر بثلاث مراحل، هي: معرفة الحقوق، فالمطالبة بها، فالدفاع عنها.

وإذا كانت التربية نافذة المجتمع لتحقيق غاياته وأهدافه، فإن المناهج التعليمية هي معول التربية في هذا الشأن، كونها تربي الطفل على المواطنة الصالحة، وتقدير الذات، واحترام المختلف، والتكيف مع البيئة المحيطة به؛ وهي بهذا كله تهيئه لتقدير مفاهيم الانتماء للوطن، وتقدير الآخر. ولتطبيق هذه الغايات والتطلعات يتطلب صياغة تلك المفاهيم بإعداد خارطة متتابعة المدى لتضمينها المحتوى المعرفي بأسس فاعلة تحت إشراف خبراء متخصصين لهم أدبياتهم وبحوثهم وتوصياتهم بما يتناسب مع تطلعات ميولهم، وتؤازر آفاق غدهم المنشود.

... إنَّ أهمية الوعي بارتباط الحقوق بحاجات الطفل الأساسية وإشباعها كحقه في الحياة والبقاء والنماء والتعليم والصحة والترفيه واحترام رأيه، يحتاج إلى مناخ منفتح متوازن ينشده الطفل لتأكيد ذاته، واكتشاف عالمه المحيط، وإحساسه بقوة تأثيره في الآخرين، وحاجته إلى التمثل التي تقوده إلى أنموذج يحاكيه؛ وهذا كله معقود على المناهج التعليمية التي لها بالغ الأهمية عند إعدادهم وتأهيلهم إلى مراس حياتهم في المستقبل. على أن شؤون الطفل بحكم طبيعتها لا تقبل التجزئة أو العلاج الجزئي للظواهر السلبية عند حدوثها، فهي متصلة ومترابطة ومتفاعلة؛ لذا يتوجب علينا إعادة النظر في السياسات والنظم المعنية بشؤون الطفولة لتحقيق الاتساق والتوافق مع المناهج والمبادئ المستحدثة في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل؛ ذلك أنَّ الاتفاقية الدولية ليست مجرد إطار قانوني عام فحسب، بل رؤية ووسيلة للتعبير، وهي تمثل نقطة نوعية في تناول شؤون الطفولة العربية التي تعاني الكثير من ويلات الإقصاء والتمزق والحرمان والاستغلال والتشرد والحروب.

إنَّ القضية ليست قضية منهج وقانون، أو حقوق وواجبات، ولكنها قضية الحراك الفعلي، والتقدم الإيجابي، والوعي العميق من كافة القطاعات ذات المسؤولية والاهتمام تعليميًّا وتنمويًّا وإعلاميًّا. وحلمنا -هنا- أنْ نرى قوى مجتمعية لا تقل وعيًا وعدلًا تحرص على العمل بمضامين حقوق الطفل الدولية والعالمية، وتبني المؤسسات المعنية بالطفولة رؤية علمية منسجمة متكاملة تقوم على تطبيق متسق ومتتابع لحقوق الطفل بهدف تحسين مضامين القوانين المتعلقة بالطفولة، وما ينبثق عنها من برامج تعليمية وإعلامية وتنموية؛ حيث يتوقف ضمان مستقبل أفضل للأطفال على ضمان أفضل بدايات تربيتهم وتعليمهم.

ولعل هذا الطرح يقودنا إلى اقتراح بعض الأطر التي قد تساعد على ضمان حقوق الطفل التربوية والتعليمية.. نوجزها في الآتي:

- تشجيع البحث العلمي: بإخضاع الظواهر والقضايا المجتمعية المتغيرة إلى دراسات تربوية متعمقة تنشد الوعي والأمن لصالح الطفل.

- ارتكاز تطوير المناهج في سياق دعوة شعبية للارتقاء بالتعليم لتكون مدخلنا إلى نافذة العالم الجديد: باعتبارها المحور الأساسي للأمن الوطني، والسلام القومي، والحوار الإنساني بمعناه الشامل؛ بالتركيز على خمسة محاور أساسية؛ هي:

* الوعي بظاهرة العولمة.

* تنمية الوعي بحقوق الإنسان وواجباته بتكريس حقوق المرأة، ونبذ التمايز الطبقي، والاختلاف المذهبي.

* اكتساب المهارات الحياتية الكفيلة بتربيته على تقدير الذات، وحسن التصرف مع المواقف.

* احترام العمل وجودة الإنتاج.

- إعداد منظومة تربوية متكاملة: تستهدف تنمية الوعي بسلوكيات حياتية مجتمعية تؤهله للتعامل مع المتغيرات والقضايا التي تجتاح العالم علميًّا وثقافيًّا.

- إنشاء مكتبة ثقافية مرجعية: تكون بمثابة مركز معلومات، أو قاعدة بيانات يستفاد منها عند إعداد المناهج التعليمية، والبرامج الإعلامية، والمشاريع التنموية المتعلقة بالطفولة.

- تفعيل دليل المعلم المصاحب لكتاب التلميذ: وإرشاد المعلمين إلى كيفية تناول المفاهيم بتقديم مقترحات لطرق تدريسها تعمل على تأكيدها وربطها بمواقف حياتية.

- إعداد المواد التعليمية الإثرائية: كسلسلة من الكتيبات المنهجية تتناول مفاهيم الصحة والبيئة في صور نشرات ورسائل مختصرة توجه للمتعلم وولي الأمر والمعلم والمجتمع حتى تتكامل الرسالة، ويرتفع وعي المشاركين والمؤثرين في العملية التعليمية.

وأخيرًا.. هُناك أصوات طيور تغرد حولنا كل صباح، ترتجي منا عونًا بحجم الحلم الصغير إلى جانب الكراسة والقلم والفكرة، عونًا هو أشبه بالطموح على الجليد.. أنْ نأخذ بيدها، ونقودها إلى مرسى الأمان. وما إنْ يحل المساء تنشد لنا قصصَ الخيال، وحكايات المغامرات، وأساطير الأحلام؛ حتى تغفو مناجية النجوم على أمنية لحن فجر جديد يعبر بها إلى فضاء الألوان.. فتصحو ثانية ترفرف بأغنيات المحبة والأمل، الوعد والبهجة، السلام والإخاء، لأن هذا كله غير قابل للتصرف من أجل تحقيق أهداف التعليم الإنمائي الجديد.

تعليق عبر الفيس بوك