حين تعبث الرواية بالتاريخ!!

مصائر "ربعي المدهون"

...
...
...

أ.د/ يوسف حطّيني – فلسطينيّ
يعمل أستاذًا لأدب والنقد بجامعة الإمارات


يبدو لنا أن ربعي المدهون أراد في رواية "مصائر ـكونشرتو الهولكوست والنكبة" استنساخ جزء من تجربة الروائي الجزائري واسيني الأعرج في رواية "سوناتا لأشباح القدس" عبر الشكل الرئيسي والموضوع الرئيسي، فأخفق في تقليد الشكل، حيث لا علاقة لبنيته الشكلية بالموسيقى التي يدّعيها العنوان والعتبات (وهذا ما أشار له وليد أبو بكر)، في مقابل ثقافة موسيقية لافتة للأعرج، أما الموضوع الرئيسي فقد أفاد من تلك الرواية حيث تبدأ الروايتان بحادثتي وفاة، وتمضيان في رحلة إلى فلسطين، من أجل ذرّ رماد الجثتين في فلسطين حسب وصيتيهما، فجاءت حكاية المدهون رحلة يقوم بها "وليد" وزوجته "جولي" إلى فلسطين، قاصدين عكا، لكي يضعا جزءًا من رماد "إيفانا" والدة "جولي" في بيتها. غير أن مغتصب البيت وزوجته يرفضان استقبال التمثال الخزفي الذي يحتوي الرماد، فهما لا يقبلان غرباء في "بيتهما"، بل إن الزوج يختطف التمثال من يد "جولي"، ويقذفه على الدرج لينكسر، فتبدو "جولي" حزينة، ولكنها راضية بأن بعض جسد أمّها قد تبدّد في هواء عكا وتوزّع على حاراتها.
وعلى هامش هذه الحكاية تنمو حكايات تفرّخ أحداثًا ومدنًا ومواقف، فتغدو الرواية حكاية فلسطينيين بقَوْا في وطنهم بعد حرب 1948، وآخرين هُجّروا ويحاولون العودة بطرق فردية، (والروائي يستخدم كلمة هاجروا لا كلمة هُجّروا)، كما تغدو حكاية يهود تصيبهم الانهيارات العصبية، بسبب ما رأَوْا في الهولوكست، فجاؤوا يمارسون ضدّ الشعب الفلسطيني عقدهم التي يجد الكاتب لها ما يسوّغها.
وتستخدم الرواية تقنية باتت معروفة وشائعة في السرد فتجعل إحدى شخصياتها "جنين" تكتب رواية عنوانها "فلسطيني تيس"، وهي رواية شبه سيرية تقترح علاقة إشكالية بين (الحقيقة الروائية) و(الواقع الفني)، وقد استعانت "جنين" (الشخصية الروائية التي تكتب الرواية) بواقعها وأفراد أسرتها من أجل إنجاز تقترب به من هذا الواقع إلى حد التطابق.
لقد بدا محمود دهمان، مثل نسيخه "باقي هناك" نموذجًا شعبيًا يشبه الأسطورة قبل أن يصير حكاية في رواية، فقد كانت "أم وليد" تنقل حكايات عن تشكيله لجنة لعمّال النسيج للدفاع عن حقوقهم، وعن تشجيعه الناس على البقاء في "المجدل عسقلان"، وعن حكايته مع "بن جوريون"، رئيس أول حكومة إسرائيلية تشكَّلتْ عام 1948: "يكطع شرّه ابن عمي محمود، والله بقى يسوى عشر ازلام. وقّف كدّام بن غوريون وبزق في وجهه"، ص118.
ويجتهد محمود دهمان في أن يكون وطنياً، ولكنّ لغة المدهون تعيده إلى المربع الأول، فقد كان يقول كلما جاءه مولود: "عوضنا فلسطيني بدل واحد هاجر وما رجعش"، ص110 (فالسارد يستخدم كلمة هاجر لا كلمة هُجّر، مرة بعد أخرى، وهذا ما يؤكّد قصدية استخدامها).
أمّا "باقي هناك" الذي يسمّي أبناءه، كما يفعل محمود تمامًا، بأسماء لها دلالتها المباشرة (فلسطين وجنين وغزة)، فإنه يسعى أن يقول كلمة حق "أممية تعايشية!!" أمام حشد من اليهود المتعصّبين في تل أبيب، وهكذا يحمل "باقي" لافتتين إلى ميدان "رابين"، ويغني النشيد الأممي أمام أكثر من نصف مليون يهودي يميني متطرف، ويُقتل في تمرين أول على نهاية الرواية، بينما يعود، في تمرين آخر على تلك النهاية، بلافتتيه اللتين لم ينظر إليهما أحد"، ص260.
ولعلّ أخطر الإشارات التي يرسلها السارد إلى قارئه تأتي عبر شخصية اليهودية "أفيفا" التي رشّت على حائط بيت "باقي هناك" كيروسين وأشعلت النار فيه، وإثر التحقيق تنازل "باقي هناك" عن حقه وسامح جارته، بسبب ما رأته في حياتها. وتكمن الخطورة في أن هذا المنطق العجيب يبرر لمن نجا من المحرقة أن يؤذي الفلسطينيين. ويجعل من بركات "أفيفا" على "باقي هناك" أنها اكتفت بإحراق البيت: "يا ريت كلّ الناس زي أفيفا، على الأقل حرقت البيت ما حرقتناش معاه"، ص150.
في المكان ثمة إصرار على التفاصيل التي توحي بالارتباط بالأرض، وثمة أغان وطنية (هدّي يا بحر هدّي) في مقابل رؤية عامة تجعل يهود العالم أصحاب حق فيها، لأنهم نتاج مأساة (لا علاقة للفلسطينين بها): ففي "عكا" تلتقط عين السارد فندق "عكّا أوتيل"، وشارع "الفاخورة"، و"برج الحديد"، و"حارة المعاليق"، و"ساحة عبّود، ونافورتها"، مثلما تلتقط "حمّام الباشا" (الذي زينته رسوم توضيحية للفنانة الإسرائيلية "تانيا سلونسكي"، ص51)، و"جامع الجزار".
وفي القدس يحضر مسجد "قبة الصخرة"، و"كنيسة القيامة"، و"المسجد الأقصى"، و"باب العمود"، و"باب الخليل"، و"سوق الزيت"، و"ميدان عمر بن الخطاب"، و"شارع طريق البطريركية اللاتينية"، و"مطعم النافورة". ويؤكد "وليد" لـ"سلمان" أنّه "لو مرّ على إسرائيل ألف حكومة يمينية أو حتى يسارية، عاقلة أو مجنونة راح تضلّ ريحة القدس كعك بسمسم وكنافة وزعتر"، ص217، غير أنّ "وليد" نفسه عندما يكون مع "سلمان، وعايدة، وجولي" يتركهم ليذهب وحده إلى متحف ضحايا المحرقة"، ص224؛ ليقدّم للقارئ العربي، لاحقاً، ترضيةً بالحديث عن مجزرة "دير ياسين"، مقارباً بين ما يشوبه "التشويه والأَسْطَرَة" وما هو "ثابت ومُصوَّر وراسخ" في العقل والوجدان. إضافة إلى صياغات تستفزّ وجدان القارئ من مثل: "واتغرّبوا وما نفعهم كل البوس اللي باسوه، ولا حتى حفلات الجنس الهستيرية التي سبقت الرحيل"، ص17.
وإضافة إلى الارتباط بالمكان تعرّي الرواية السلطات الإسرائيلية التي تعامل العرب، بوصفهم مواطنين من الدرجة الثالثة، أو حتى دون ذلك، ولا تسمح لهم بممارسة العمل، غير أن السارد حين ينتقد السلطات الإسرائيلية لا ينسى أن يشير إلى الإسرائيليين الطيبين الضحايا، ولا ينسى أن يتحدث عن مشكلات المجتمع الفلسطيني الذي يعاني من انتشار جرائم الشرف والمخدرات والجنس المثلي، في مقابل مجتمع إسرائيلي لم نلمس فيه أثراً لأمراض اجتماعية، فلا مخدّرات ولا جرائم، إلا ما يوجه نحو الفلسطينيين من سياسات عنصرية، من قبل حكومة غاشمة (لا تشبه مواطنيها)، فجميل عضو في لجنة سكان البناية في "حيفا"، وكلهم من اليهود، ولكنّ "جولي ستكتشف حتماً أنّ سكّان البناية ليست الحكومة، أو الكنيست الإسرائيلي المتخصص في سنّ قوانين تعذيب الفلسطينيين"، ص ص64ـ 65. أما "أفيفا" جارة "باقي هناك" فمسكينة ما حدّش سائل عنها ولا عليها، لا جوزها ولا أولادها الاثنين، والدولة بتبيع ماساتها وماساة غيرها بالجملة والمفرّق"، ص79، وكأن "أفيفا" لم تبع مأساتها أيضًا، أو كأنها لم تترك مدينة "كييف" الروسيّة لتشكّل مع بقية المهاجرين مجتمعًا استيطانيًا يحتل أرضنا.
وعلى الرغم من الأخطاء اللغوية التي تعاني منها الرواية فإن الكاتب يستخدم مستويات متعددة للغة، تبدأ من شعرية سردية؛ لتنتقل إلى لغة فصحى لا تغادر وظيفتها الإخبارية نحو الجمالية، ثم إلى لهجات فلسطينية لا يتقن توزيعها على مناطقها، وإلى لغة مكسّرة تخلط العربية بالإنكليزية. وعلى الرغم مما تحتويه لغة الرواية من كشف لممارسات السلطات الإسرائيلية التي تسرق أراضي الفلسطينيين بواسطة الوكالة اليهودية أو غيرها، وعلى الرغم من لغة الحنين التي تتسرب من بين بعض الصياغات اللغوية، فإنّ اللغة ذاتها تجعل التعصّب الديني "فريدًا" في المجتمع الإسرائيلي، وتجعل المهجّرين "مهاجرين"، وتجعل "العيشة تحت حكم إسرائيل أحسن ألف مرة من حكم الإدارة العسكرية المصرية اللي مورّيانا نجوم الظهر"، ص119.
إنها ليست لغة محايدة، فهي تساوي بين الجلاد والضحية، وتبحث للجلاد عن مسوّغات فعلته، وتشجعه من جانب خفي على ممارسة المزيد من القمع، ما دام "باقي هناك" مستعداً للتنازل عن حقّ بيته الذي أحرقته "أفيفا".

تعليق عبر الفيس بوك