البرلمان من دائرة الفردية والفئوية إلى رحاب الفضاء السياسي الوطني (2-2)

 

عبيدلي العبيدلي

على نحو موازٍ، وبذات القدر من الاقتناع، ينبغي على مكونات العمل السياسي البحريني، ولإنجاح التجربة البرلمانية، التي رغم اقترابها من عامها العشرين، تبقى فتية، عندما تقارن بنظيراتها في الدول الأخرى، بما فيها بعض البلدان العربية، التي تجاوز عدد سنواتها القرن من الزمان، أن تمارس مواقفها من البرلمان تأسيسًا على المنطلقات التالية:

 

1. اقتناعها المطلق بأنَّ العصر الذي نعيشه، والمرحلة التي نمر بها، تنبذ العنف، بكل أشكاله، وتأخذ بالطرق السلمية وسيلة للعمل السياسي من أجل تحقيق المطالب الوطنية، وتأمين مقومات النمو المطلوبة التي تضمن التطور المرتقب الذي يأخذ على عاتقه مهمة انتقال الصراعات بين القوى السياسية إلى قبة البرلمان من أجل حسمها بالطرق الحضارية المطلوبة التي تضمن استقرار المُجتمع، وتعايش مختلف مكوناته السياسية مهما بلغت التفاوتات القائمة بينها حدة، والتباينات الفكرية والعقيدية اختلافًا.

 

2.      بناء الوعي الجماهيري الذي يُحيط بالعمل البرلماني، كما تحيط الأسورة بالمعصم، من أجل إدراك أهميته وضرورة حضوره في المشهد السياسي البحريني أولاً، ومنع التلاعب بقيم وسلوكيات المنخرطين فيه ثانياً، والعمل على تطويرها والارتقاء بأدائها على المستويين الفردي والمؤسساتي، ثالثًا وليس أخيرا. هذا الوعي يبقى صمام الأمان الوحيد أمام نجاح أية تجربة برلمانية واستمرار عملها.

 

3.      عمل الدولة ومؤسساتها، بكل الطرق المُمكنة، والوسائل المتاحة، على طرح نموذج سلوك مُتقدم، عندما يتعلق الأمر بالبرلمان. إذ يقتضي الأمر هنا تحلي القائمين على تلك المؤسسات، بدرجة عالية من الشفافية القادرة على وضع صمامات الأمان الضرورية، التي تحول دون انحراف التجربة، وهي ما تزال تخطو خطواتها الأولى، وتؤمن القوانين والأنظمة، وفي المُقدمة منها دستور البلاد، التي تقطع الطريق على كل من تسول له نفسه، وأد التجربة، أو حتى مجرد المساس بركائزها الرئيسة.

 

4.  تمسك القوى المعارضة بالسلطة التشريعية، وبذل الجهود كافة من أجل ضمان استمرارها، وعدم المساس بجوهر آلياتها. وهنا تقع على عاتق الجمعيات السياسية البحرينية مجموعة من المهام المركزية، تبدأ بتأهيل كادرها السياسي كي يتحلى بمتطلبات مُمارسة العمل البرلماني، وعلى الصعد كافة، وتعرج على تسخير قواها الذاتية من أجل إنجاح التجربة، وقطع الطريق على من تسول له نفسه إجهاضها، قبل أن تنتهي إلى الوصول إلى الحالة النموذجية، ولا نقول المثالية، لأنَّ تطوير المؤسسة التشريعية عملية مستمرة، ومن الخطأ توقيفها.

 

على أن هذه العوامل جميعها سيُصيبها الشلل، وتعاني من الالتواءات العضوية، في حال عدم نجاح مكونات العمل السياسي البحريني من التمرد على الذهنية الفئوية، ونسف مفاهيم العقلية الطائفية، التي يُمكن حصر أهم مظاهرها في السلوكيات التالية:

 

1. التخندق في مستنقعات الفكر الفئوي، بوعي أو بدون وعي، حيث يتحوَّل البرلمان من ساحة وطنية شاسعة إلى ثكنة فئوية ضيقة تكون عضويتها مكسباً ينحصر نيله في الثقل الذي يتمتع به المُترشح في صفوف الطائفة أو الحزب، أو حتى الاقتراب من مؤسسات الدولة والقوى الاجتماعية التي تدور في فلكها. الخطورة هنا هو انزلاق المواطن، دون وعي منه، ونظراً لغياب الرؤية الوطنية عن ناظريه، من عنصر فاعل ومؤثر في معادلة العمل البرلماني، إلى مجرد رقم يضاف إلى رصيد هذا المترشح، في البداية، والنائب في مرحلة لاحقة، أو ذاك.

 

2.   انحراف التعبئة السياسية عن فضاء العمل الوطني الرحب، نحو النشاط الفئوي الضيق، الذي تترجمه سلوكيات مكونات العمل السياسي، بعيدًا عن إدعاءات برامجها، أو مؤلفات خططها. هذا الانحراف يتسع طردياً مع اشتداد معارك الانتخابات البرلمانية، ويتنامى طرديًا أيضًا مع احتدام معارك الصراعات تحت قبة البرلمان. و"تتألق" مكونات العمل السياسي في تغليف سمومها الطائفية والفئوية بسياجات من الشعارات البراقة، والدعايات المضيئة، التي تحمل في ثناياها فيروسات السلوك الطائفي، التي حتى عندما تكتشف، يأتي ذلك في مراحل متأخرة، وبعد أن يسبق السيف العذل.

 

3.      القفز على حبال الخدمات التي تغلف بمقدمات وطنية، لكن تنبعث من أجساد متونها رائحة الفئوية الضيقة والطائفية القاتلة. ويتقن القادة الفئويون فنون التلاعب بالألفاظ، ويحسنون إخفاء روائحهم الفئوية النتنة تحت ملاحف شعارات الخدمات الوطنية تلك. وتكون محصلة ذلك وبالاً على المشروعات الوطنية، وسموما تقتل المبادرات المرتبطة بها. ينتهي المطاف بالوطن أسيرا في قيود تلك السلوكيات الطائفية المقيتة. وتضيق دائرة المواطنة، بدرجة عالية وسريعة ومتلاحقة، كي تفسح في المجال أمام نمو دوائر الطائفية والفئوية.

 

والنجاح في الانعتاق من هذا السلوك الفئوي/ الطائفي القاتل، كخطوة أولى نحو الانطلاق إلى طريق العمل الوطني الخلاق المبدع رهن، بدرجة شبه كاملة، بقدرة قادة مكونات العمل السياسي البحريني على الاقتناع المطلق بأن الإطارات السياسية الفئوية قد ولى زمانها، ولم يعد لها مكان في قاموس زمن ثورة الاتصالات والمعلومات التي تجاوزت حدود الأوطان الأكثر اتساعاً، قبل أن ترفض أسوار الطائفية الغاية في الضيق.

 

فتجارب الأمم التي سبقتنا نحو قبة البرلمان، والتي حملت في أحشائها تجارب مضيئة تشجع على الاحتذاء بها، والسير في رحاب جاداتها، هي تلك التي نجحت مكونات أنشطتها السياسية في التمرد على أخلاقيات مستنقعات السلوك الفئوي/ الطائفي، كي تسبح في محيطات العمل البرلماني الوطني، بالمعنى الحضاري الواسع الشامل لتعبير "حضاري".

 

وما لم تنجح مكونات العمل السياسي البحريني في إنجاز هذه الخطوة، سيستمر البرلمان في أسره، مهما طليت قبته بالألوان البراقة، ومهما علا صياح المشاركين فيه بالشعارات الفاقعة ألوانها، لكنها تفوح منها رائحة الطائفية/الفئوية العفنة.

 

فهل ينعم جيلنا ببرلمان تمرد على دوائر الطائفية الضيقة، وتجاوزها نحو رحاب فضاءات العمل الوطني؟ وحدها مكونات العمل السياسي البحريني تملك الإجابة الصحيحة على مثل هذا التساؤل، هذا في حال حسنت النوايا، وصفت الأفئدة، وطهرت العقول.