قوَّة التسامح

فاطمة بنت ناصر

تويتر: @f_bint_nasser

"وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ من اعتدى، ودافعْ ولكن بالتي هي أَحْسَنُ" الإمام الشافعي.

لا أريدُ الحديث عن التسامح أو عن تأصله في نفوس العمانيين، ولكن أريد الحديث عن التكرار المقيت. أفنكون قتلنا مفهوم "التسامح" لكثرة ما لاكلته ألسنتنا؟ أنكون اعتدنا عليه حد الملل، وبقي أن نجرب غيره لنعرف قيمته؟

لا أقول ذلك يا أصدقاء مبالغةً، ولكن في مقابل خطب التسامح التي تملأ أجواء بلدنا الحبيب، باتت تصادفنا أصوات تدعو إلى إعادة النظر بمفهوم التسامح الحالي، لأنه كما تدعي يعكس الضعف والهوان. فهل تكون شيمة الصفح العظيمة والشاقة على النفس أدنى شأناً من وقع السيوف الموتورة الغاضبة؟ أنعمي عين العالم الوحيدة بأيدينا لنجعله أعمى كما قال غاندي: "إنَّ العمل بمبدأ العين بالعين ينتهي بجعل العالم كله أعمى".

عُمان الماضي لم تصل إلى سواحل إفريقيا وغيرها بالقوة وحدها، بل بالمودة استقرت وعاشت وتعايشت. ولم تكن بين أهلها كالغازي المحتل بل نشرت الألفة والتسامح والاندماج الذي لم يكن مجرد شعارات رنانة، بل مبدأ حياة وتعايش. فحدث التزاوج الذي قرب الأعراق وترسخ الإيمان في الأنفس دون حد سيف يجبرها على اعتناقه. فسيرة العمانيين الحسنة وحسن معشرهم حبب تلك الشعوب فيهم وتعايشت معهم سنينَ طويلة. ولم يتغير شيء من المودة حتى يومنا الحاضر فما زلنا حاضرين بيد ممدودة لفعل الخير وحده. فقوة الإمبراطورية العمانية لم تغرينا لنبطش بالناس أو لنتخلى عن شيمة العفو والصفح، بل زادت فينا خصال التواضع وشيم الوقار.

أمَّا عُمان الحاضر، فترى بين حين وآخر من يرمون القاذورات وهم في ضيافتها ويقومون بتأجيج الطائفية وهي حاضرة، فلا تفعل ولا تقول إلا كما فعل النبي حين كانوا يرمون بالقاذورات أمام بيته. فلم تكن القوة عند المقدرة بديلاً أو حلا لكف الظلم والعدوان، بل كانت دوماً السبب في صراعات لا تخمد وأنهار دماء لا تنضب. فالقوة ليست سوى وجه آخر للجحيم الذي لا يكتفي بأي شيء يقذف إليه بل يطالب بالمزيد. وأما الصفح والدفع بالتي هي أحسن، فكان دوماً كالماء برداً وسلاما على نفوس الجميع.

فالتسامح لا يقود إلى الضعف، ولا يُوْجَد رابط أو خيط يجمع بينهما. فالتسامح إن زاد عن حده أصبح تعايشا واندماجا ووئاما. فهذه اللفظة لا تزال في نظر البعض -وأنا منهم- لفظة فوقية يتكرم فيها طرف ما بالتنازل والتعايش مع طرف آخر، لكنه في قرارة نفسه يعتقد أنه الأعلى والأكثر تفوقاً. فيا حبذا أن يزيد التسامح ليتحول إلى انسجام وتعايش، ولنا كل الشرف أن نكون رواده في العالم العربي إن عزَّ عليه إنجاب أُخْوَة يحبون بعضهم. أمَّا الضعف، فهناك خيط يربطه بالهوان إن زاد عن حده.

وقول أخير.. عُمان التي نأت بنفسها عن شؤون الغير خوفاً من أن يلحق ثوبها شرار الفتنة، ستصم آذانها -كما تفعل دوماً- أمام الخطابات المثيرة مهما علا استفزازها. وشعب عمان قد تعلم من دروس الماضي جيداً، ولن يسعى لإذكاء نار أخمدها منذ سنين كانت قد أهلكت البشر والأرض وشتت شملهم وأنهكت قواهم. أما الحاضر، فالعماني يراه بكل قواه الحسية ولا يرغب في أن يسن سيفاً أو أن يطلق رمحاً. فهو ليس بالضعيف الخانع ولا الموتور الغاضب. هو الحكيم القادر على التحكم بأهوائه، والملك الذي لا يغريه سلطانه لبطش، ولكنه بالعفو أرضخ الفتن وروَّض الخصوم العتاة. عُمان الكبيرة تُستجدى لتلعب أدوارَ الوساطة التي لا تُطلب من ضعيف خانع، ولكن تركع لها أرجل القوى الكبرى.

عفا الله عمَّا سلف.. بهذا طويت صفحة من ماضينا الذي أنهكه الشقاق والتناحر، وبها ستعيش عُمان صفحاتها القادمة النقية بين برك دماء الأقوياء الذين حُرِمُوا من لذة الأمان بسبب اغترارهم بالجاه والمال.

 

* مترجمة وكاتبة

تعليق عبر الفيس بوك