عندما ننقد ذاتنا نبتعد عن جلدها!

عبدالله العليان

لا شك أنَّ إصلاح الفرد أو الأُمَّة في مسيرتها من خلال النَّقد الذاتي، مطلب ملح وهام، ومنهج قويم لتصحيح الأخطاء والسلبيات التي مُورست في ظروف مُعينة، والنَّظر الجدي للواقع من خلال اكتشاف الجوانب التي فيها الخلل والعلل، التي أدت إلى ذلك الواقع بظروفه، وهذا لا يتأتى إلا بالمُراجعة الذاتية، والنقد الداخلي الحصيف للمسار القائم بإفرازاته السلبية، ولن تنجح أي خطوات لإصلاح ذات الفرد أو الأمة إلا بالنقد، والمُراجعة الصحيحة، وهذا النقد المطلوب والمهم للذات، يختلف عن جلدها وتأنيبها، فنقد الذات يعني المُراجعة والتصويب والتغيير لما كان عليه الحال سابقاً، وهذا بلا شك مطلب حيوي للخروج من المُشكلات والتَّحديات والأخطاء، أما جلد الذات ورجمها وتحطيم المعنويات، وزيادة المتاعب، وهو ما يجعلها رهينة هذا الواقع وتراكم الخلل وإبقاء العلل كما كانت، وفي نفس الوقت هي معول هدم للذات الإنسانية، وليس عنصراً للتقويم والمراجعة، حتى يُمكن الخروج من الواقع السلبي إلى الواقع الإيجابي المنشود، والأمم والشعوب والحضارات عبر التاريخ، تواجهها في مسارها مثل هذه المشكلات، من مصاعب ومخاطر كبيرة، نتيجة السياسات العقيمة البعيدة عن التقييم الناضج القويم، لكن عند حدوثها وهذا هو مربط الفرس كما تقول الأمثال، لا يجب أن نستسلم لهذا الواقع المؤلم، ونجلد ذاتنا ونبكي على الأطلال، دون الاستفادة من المُراجعة النقدية للذات، بل لا بد من النظر، وإعادة الحسابات وتعزيز بالثقة بالنفس، وهو الأهم والحاجة الضرورية لما نحن فيه، لا بنزعها عن الذات وإبقاء الحال على ما هو عليه، ونجلد أنفسنا لا أن نحاسب ذاتنا على الأخطاء، ونناقش ذاتنا بالنقد.. لماذا وصلنا إلى هنا؟ فألمانيا ـ وهذا معروف في التَّاريخ ـ هُزمت في حربين كونيتين، الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية نتيجة المُغامرات غير المحسوبة، لكنها مع هذه الهزيمة الكبيرة والخطيرة، وتقسيمها في الحرب الكونية الثانية، وتدمير غالبية مرافقها الحيوية، ومقتل الملايين منها في الحروب، فإنَّه مع ذلك، استطاع هذا الشعب وعقوله المُفكرة، أن يراجعوا هذه الأخطاء وأن يتم نقد الذات بشجاعة، وتم إعادة بناء ألمانيا الموحدة، بعد (كسر جدار العار)، كما سُمي بعد تقسيم ألمانيا إلى دولتين، وهذا مُحصلته أنَّ النقد، ونقد النقد،حصل لهذا البلد، ولم يستغرق الألمان في جلد أنفسهم، بسبب مُغامرات هتلر ومن سبقوه من السياسيين، وهذا ما جعلها تُحقق الريادة والقدرة على استعادة ذاتها مرة أخرى، كدولة كبرى لا تقل مكانة في نهضتها عن الدول المنتصرة كلها، ولذلك فإنَّ نقد الذات يلعب دوراً نفسياً في تجاوز الأزمات والتراجعات السلبية، بينما جلد الذات، عكس ذلك تماماً، يُسهم إسهاماً كبيراً في إعاقة مسار المراجعة الإيجابية في غياب النقد والتقييم السليم.

ويذكر الأديب والروائي السعودي المعروف دكتور غازي القصيبي رحمه الله، في كتابه(الوزير المُرافق)، عن بعض السياسيين الذين رافقهم عند زيارتهم لبلاده، ومن هؤلاء السياسيين، أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند لعدة مرات، قبل اغتيالها من بعض المتطرفين من الطائفة السيخية، ويقول د. غازي إن أنديرا كانت تتبرم من النقد الموجه لها في الهند من قبل المعارضة، وكانت تقول كما نقل ذلك القصيبي،"إنَّ لدينا ديمقراطية زائدة عن الحد".ويُعلق د. غازي القصيبي على هذا القول من أنديرا غاندي، إن (هذه "الديمقراطية الزائدة عن الحد" ، هي التي أبقتها في الحكم من سنة1966 إلى سنة1977. وأخرجتها تلك السنة. ثم أعادتها بعد أربع سنوات). وليس هذا فحسب، بل إنَّ الديمقراطية في الهند ـ والزائدة عن الحد بحسب ما قالته غاندي ـ هي التي استطاعت أن تجعل من الهند الآن واحدة من الدول الناهضة صناعياً في عدة مجالات، وأصبحت مُتقدمة تكنولوجياً وفي العديد من المجالات العلمية، وهذا ما كان ليتحقق إلا من خلال النقد والنقد الذاتي والمُراجعة الحُرة للسياسات التي تحتاج إلى نقد وتقويم، حتى تتبلور الآراء، وتخرج منها الأفكار الناضجة، المتحررة من النظرة الأحادية العقيمة التي لا تُسهم في الحلول المقبولة التي يجعلها مخاض الحوار والنقاش أكثر حيوية وعقلانية ومنطقية، أما جلد الذات وجعل الواقع لا انفكاك منه والسكوت عليه، فيعني بلا شك الهروب من مواجهة الأخطاء ومُراجعتها.

أمتنا الآن تعيش واقعاً صعباً نتيجة سياسات وتراكمات سلبية بعد أن تتحقق المراجعة لها بجدية، لكنها ليست نهاية الطريق ولا غروب الشمس تماماً عن العودة للضياء الناصع، ولا هي بالأزمة القاتلة التي لا حل لها، لكنه للأسف، في غياب نقد الذات، أو إقصاء المُراجعات، يبرز للسطح جلد الذات، وربما يعتقد البعض أنَّ جلد الذات هو النقد ذاته، وهذا إما جهل في غياب الوعي، وإما وعي مسدود بجهل اللاوعي، وكلاهما يؤدي إلى تغييب الفهم بنقد الذات، وجلدها وشتان بين هذا وذاك، وعندما تقرأ بعض الكتابات عن واقعنا العربي الراهن، يجعلك ذلك تحس الأمر، وكأنه الأمة مصيرها الموات، أو التلاشي أو الذوبان، بسبب ما جرى ويجري، ولو نقارن الوضع العربي الآن، وما جرى في أوروبا في القرن الماضي من حروب كبيرة ـ كما أشرنا ـ وحصدت الملايين من البشر وغيرها من المؤثرات، لا يمكن المقارنة بيننا وبينهم من حيث التأثير الصادم، ويفترض بهم أن يجلدوا ذاتهم لا نحن، ومع ذلك نهضوا واستعادوا مكانتهم في غضون عقود قليلة، وسلبيات ومغامرات الماضي غير المحسوبة تم رميها ونسيانها تماماً، وتطلعوا للمُستقبل بثقة ونجحوا نجاحاً باهراً، دون أن يتخذوا من جلد الذات، أسلوباً والبكاء والبقاء في نفس المربع، وهذا ما نود أن يكون طريقاً للنقد.. لا للجلد.. ولله في خلقه شؤون.