سومو.. فيلا سوفي

يحيى خضُّور – السلمية - سورية
صادفتها في مدخل البناية ... كلانا كان ينتظر المصعد، جارتي ذات الأربعين عاما و"كشتبانا" في أصبعها الأوسط. ترمّلت عن عمر اللوز منذ عشرة أعوام ومنذ ذلك الوقت و هي تحرص على حماية أصبعها من وخز إبر الرجال الطامعين بها.
أما أنا فقد كانت تربطني معها علاقة "مصعدية" تتخللها نظرات البراءة وبعض السلام والتحيات... وقد تطور الأمر مؤخرا وصرنا نتحدث بمواضيع الصيانة التي تخص المبنى الذي يقطنه كلانا، مع خِفَّة دم مقصودة من قِبلي باستخدام مفرط للتأويلات البلاغية للمعنى المراد، كأن أشرح لها الفرق بين الصيانة وإعادة تأهيل البناء، وكيف أن الصيانة ضرورية لكل شيء وأن خبرتي بهذا المجال كبيرة ... فتضحك أحيانا وتعرف أني أطبخ بعض الاستعارات المقصودة.
اليوم و في مدخل المبنى... كان سلامها حارا جدا وأخبرتني أنها تعمَّدت انتظاري لعلمها المسبق بموعد عودتي المعتاد إلى البيت، ارتبكتُ قليلا، وسألتها ببرائتي المعتادة... عساه خيرا جارتي؟...
قالت: أكيد خير جارنا... و لكني أحتاجك بأمر ضروري عندي في شقتي.
اعتقدتُ جازماً أنها استشارة تتعلق بموضوع الصيانة.
قالت إنها وحيدة في المنزل هذه الليلة وتحتاجني بموضوع بعيد عن الصيانة ولكنه سياسي.
سياسي؟!!!
نعم... و كان القلق باديًا على وجهها وأردفتْ أنها تريد أن نتناقش بما يجري في سوريا وما هي وجهة نظري حيال الأحداث المتشابكة هناك وكيف يمكن أن يكون الحل المستقبلي...
دخلنا الشقة من بابها البُنيّ المحروق، وترافق دخولنا مع أصوات أجراس لمصيدة معلقة خلف الباب ومربوطة بخيط شفاف إلى السقف.
الشموع المشتعلة على طاولة المدخل بأكواب عريضة من الأعلى و برائحة "الفانيلا" توحي أن التحضيرات لهذا الاشتعال السياسيّ القادم لم تكن منذ أكثر من نصف ساعة.
الإضاءة الصفراء الخافتة المنبعثة من تجويف في السقف المعلّق الذي يغطي هيبة الصالون توحي أني قد دخلت معبدا سياسيا من الطراز الرفيع.
بدأتُ رحلتي القصيرة في الصالون ريثما تأتي هي من غرفة نومها، لشأن قالت بأنه ضروري.
اللوحات بقياسات مختلفة مرتبة تصاعديا على الجدار، بعض الكتب المرميَّة على رفٍّ صغير تشي بأن أحدهم أنهى قراءة هذه الكتب للتوِّ ورماها هناك.
"قواعد العشق الأربعون" كان أحد هذه الكتب،أخذته في يدي كي يكون موضوع نقاشنا الساخن قبل الدخول في المعترك السياسي.
عادت إلى الصالون كأنها لم تكن جارتي الأرملة التي تربطني بها علاقة مصعدية.
قميص نوم شفاف أبيض بتجاعيد الحليب عليه، شعر طويل أشقر مرمي على ظهر الحياة لنستغيث منها أكثر .
عينان لوزيتان تشعّان بأسئلة وجودية لم يكن لها أجوبة سابقا.
و ها أنا ذا الفارس الذي سوف يقدم الأجوبة و يقدم تفسيرا لكل شأن غامض من شؤون الحياة.
قلت لها و أنا واقف في منتصف الصالون أنظر في عينيها، دعيني أكون صريحا معك بأن خبرتي السياسية ضعيفة جدا وكل ما أعرفه مجرد مقاربات سياسية.
أردفت و ما المانع.... دعنا نجرب هذه المقاربات.!!!
بالأمس كنتُ خفيف ظل أتباهى بالاستعارات اللفظية ذات المعنى وضدّه، وها أنا ذا تلميذ فاشل بالتقاط الاستعارات مترددٌ خجلٌ في منتصف الصالون.
كسرتُ حِدَّة المشهد ولوَّحتُ بالكتاب في الهواء بيننا، وقلت لها كيف تم إعادة إحياء النهج الصوفي في الغرب في السنوات الأخيرة وأن مصدر الكلمة قد يكون الحكمة... الجذر الثاني لكلمة فلسفة (فيلا...سوفي).. أو هو الذِّهن الصافي ... ولكن المعنى الشائع بأن الصوفيون كانوا يرتدون جُبَّة من الصوف وهو شيء أقرب للفكرة ...
سألتني كيف؟! وقد اقتربتْ من مركز المعبد خطوة أخرى، وصارت المسافة بيننا لا تكفي لشرح فكرة أن غرور الإنسان في ذاته يجب أن ينعكس للآخر بفقر ماديّ، وإنني أنا و الأخر لا نعدو كوننا ذرتين متطايرتين في فضاء فسيح.
الشفتان وقد أطبقتا على لسان الحظ بعد الخطوة الأخيرة باتجاه مركز المعبد... رائحة الفانيلا الخرافية.... الذرات وقد انشطرت نوويا في مفاعيلها... أنا وقد صرتُ ماءً يمتصني إسفنجها ... تجاعيد الحليب وقد انزلقت عند تلك المقاربات... الكتاب وقد طار في الهواء باتجاه الرَّف الصغير..... يتبع.

تعليق عبر الفيس بوك