"الإعلامية".. نوران سلام القاصة التي لم تضل طريقها إلى التليفزيون

الرُّؤية - أحمد عمر

تُدْرِك الإعلاميَّة نُوران سلام جيدًا كيفية ضبط إيقاع الكلمات واستخدام الألفاظ، لتعزِف ألحانًا روائية تمزجُ بين الواقعية المريرة والغرائبية المثيرة للدهشة في آنٍ؛ فلم تكن سلام مُجرَّد راوٍ عليم في رائعتها "الإعلامية"، بل استحالتْ بطلاً رئيسيًّا في هذا العمل الأدبي، رغم بَعْض نقاط الضعف التي لم تنل من تماسك الرواية بشكل عام.

فعلى مَدَى 254 صفحة من القطع المتوسط، تَظْهَر سلام بين الفينة والأخرى بشخصيتها الحقيقية، ربما لا تراها تتكلم بلسانها صراحة كباقي الشخصيات، لكنك تتأكد أنها حتما مَنْ وضع ديكور الأستديو الخاص ببرنامج "والله.. فكرة!"، الذي تُقدِّمه الشخصية المحورية في العمل، الإعلامية المخضرمة فكرة علم الدين.

سلام حاضرة بقوَّة في تفاصيل شتى يكتشفها من يُمْعِن في النص ذهابا وإيابا كي يستوعب القدر الهائل من التوصيف، والمعنى الكامن في ثنايا كلِّ سطر خطَّته لوحة مفاتيحها أثناء اعتكافها على كتابة الرواية. الحضورُ الخاصُّ للراوي العليم في هذا السياق لم يتوقف عند تلك الزاوية السردية التي يمتلك فيها الراوي مفاتيح الكلم وحسب، بل ينتقل إلى ما هو أعمق وأدق؛ فيكشف بوضوح -لا يقبل الشك- عمَّا يدور في خُلد الشخصيات: رئيسية كانت أو ثانوية.

كما أنَّ السَّرد المفعَم بالتوصيف واللغة العربية الرصينة رفيعة المستوى رُبَّما يدفعان القارئ إلى أنْ يُنقِّب في المعجم عن دلالات كلمة ومعنى لفظ انصهرَ في جُملة وصفية، ليُبرز جانبًا لا يُمكن أن يُدركه القارئ دون هذا النوع من السَّرد. ولعلَّ نقطة ضَعف تظهر هنا من خلال الإفراط في الوصف القائم على مفردات بالغة العمق في سياق رُبَّما لا يحتمل سوى كلمات بسيطة لإيصال المعنى، بَيْد أنَّ الكاتبة لجأت لتوظيف مخزونها اللفظي في النص؛ فكانت تكتبُ كمن يقول هذا آخر أعمالي، وتختار ألفاظها من معجم خاص تحتفظ به في ذاكرتها.

الحضورُ الطاغي للإعلامية القاصَّة المثقفة في كل سطر -وإنْ بَدَا مُبالغا فيه بعض الشيء أيضًا- مَنَح القارئ جُرعة مُكثَّفة من سينوغرافيا النص؛ فالخلفية الإعلامية لسلام أثَّرت بقوة في طريقة إخراجها للنص في صورة سينمائية، فقد لا تحتاج -كقارئ- إلى خَيَال جَامِح حتى تتصوَّر مشهدًا ما في الرواية، يكفي فقط أن تضع كل كلمة أمام عينيك، وتغمضها لثوانٍ، فترى المشهد كأنك تشاهده في قاعة سينما وربما ثلاثية الأبعاد!

ثمَّ تعود سريعا لاستكمال القراءة علَّك تُدرك المشهدَ التالي. وبدا ذلك طاغيًا على مُعظم فصول الرواية، وهو ما قد يتسبَّب في فُقدان عُنصر التشويق لدى القارئ -الشغوف بطبعه- الذي يُريد أن يعرف ماذا حلَّ بالأحداث بعد سرد طويل.

ورُبما هذا السَّرد الطويل بتوصيفاته الثرية مُبرَّر إذا ما تمَّ وضعه في حجمه الحقيقي مع كلِّ مَشهد، لكن بالإجمال قد يبدو وكأنه عقد انفرطت حباته، فبدلا من أنْ تستخدم سلام هذا الأسلوب السينمائي في إطار مُحكم لإبراز بعض التفاصيل، تحوَّل الأمرُ وكأنَّه نهج أصيل تعتمد عليه الأديبة. كما أنَّ التفاصيل التي تذكرها سلام بأسلوب سردي رشيق نالت منه الفصاحة الزائدة على الحد، لكنَّه أسلوب ظل مُمْسِكا بتلابيب المشهد.

لم تَسْتَطع سلام إخفاء تجربتها الشخصية كذلك في العديد من شُخوص العمل، فبدتْ كلُّ شخصية تحمل جانبا من خبرات سلام المتراكمة نتيجة عملها في الإعلام ودراستها للغات؛ بدءًا من الشخصية المحورية فكرة علم الدين، مُرورا بكِبار المسؤولين الذين تربطهم بعلم الدين علاقات وطيدة، تَسْمَح لها بدعوتهم إلى حفلات ساهرة في قَصْرها المنيف، وحتى المنصوري البجلاتي مدير التحرير، الذي ربما لن يستطيع وصفه إلا شخص تعامل مع مديري تحرير من هذه العيِّنة اللزجة، وكذلك المذيعة لمياء التي تُجسِّد الفتاة ذات الحسن والدلال التي تقتحم العمل الإعلامي اعتمادا على مُقوِّمات تستند حصريا إلى الشكل الظاهري، حتى وإنْ بَدت مُدْرِكة لتفاصيل هذا العمل المرهق.

الاستخدامُ الواضحُ للغة الفرنسية في بعض من أحاديث علم الدين، يعكس كذلك الثقافة التي تملكها سلام ودراستها في كلية الألسن، الصَّرح المعرفي الأبرز في عالم اللغات بمصر، ويكثُر استخدام علم الدين للغة الفرنسية في مواقف الانفعال أو التماس الأعذار.

ثُنائية اللغة التي تتمتَّع بها علم الدين، أرادتْ سلام منها الإشارة إلى أنَّ هذه الإعلامية تنتمي إلى طبقة اجتماعية بعَيْنها؛ حيث تنطق الفرنسية كأنها واحدة من سكان باريس، حتى في نطقها لبعض الكلمات المستخدمة في اللغة العربية، فحينما كانت تحادث أخاها رياض عن "الشبح" الذي رأته بأمِّ عينها، أقسمتْ له بـ"رحمة پاپا"، وظنِّي أنَّها نطقتها Papa باللكنة الفرنسية؛ بالباء المشدَّدة.

لكنَّها كذلك لم تُخفِ الجانبَ الآخر من هذه الطبقة؛ فرغم ادعاء علم الدين للأرستقراطية، إلا أنَّها لم تتوانَ عن استخدام بعض الألفاظ التي رُبَّما يَرَى البعضُ أنَّ هؤلاء القوم يتحلون بقدر من حفظ اللسان لا يسمح لهم بنطقها.

"يا روح أمك"! هكذا قالتها علم الدين بانفعال شديد، وهي تركيبة لغوية رُبَّما لن يتخيلها القارئ أن تصدر من إعلامية شهيرة تركب "البورش"، وتعيش في قصر رُبَّما تكلَّف إنشاؤه عشرات الملايين من الجنيهات!!

الحبكة الرِّوائية التي صاغتها المؤلِّفة عبر 46 فصلا (بجانب 4 أبواب خاصة لإضفاء نهاية مثيرة وربما سعيدة)، تُسلِّط الضوء على كواليس مهنة من أكثر المهن إرهاقا على المستوى النفسي والبدني، كما أنَّها تبرز حجم التحدي الذي يواجهه العاملون فيها، حتى أولئك الذين تُفتح لهم خزائن المحطات الإعلامية، ويتهافت المعلنون على "رعاية" البرنامج الذي يظهرون فيه. إنَّه تحدٍّ تتحدَّث عنه المؤلفة ليس فقط باعتبارها الراوي لكل ما يحدث، بل هي واحدة من هؤلاء الذين يُكافحون في مهنة يختلط فيها الصالح بالطالح والمجتهد بالمدعي، بل قد لا يميز البعض بين المهني المحترف وذاك الغوغائي الذي ينشر جهلا مضاعفا على مشاهديه.

ويبقى القول إنَّ "الإعلامية" عملٌ أدبيٌّ مُميز، لصحفية مُحترفة تنقَّلت بين دروب العمل الإعلامي، وسأقتبس هنا جملة من الرواية قالها الرَّاوي العليم على لسان الطبيبة النفسية المعالِجة لعلم الدين؛ حيث تحدَّثت عنها وقالت: "يطيب للقاصة التي ضلت طريقها للطب النفسي أن تمزج بين عالميها ما تسنى لها المزج"، وهنا أقول إنَّ سلام في الأساس قاصَّة لم تضل طريقها نحو العمل التليفزيوني.

** نقلا عن "إعلام دوت أورج"

تعليق عبر الفيس بوك