من أدب الرحلات

جسر الجمرات يتقفى أثر الدلالات

بعد عقود خمسة قضاها البروفسور مصطفى عبد الغنيّ في دهاليز الحداثة والليبرالية فكرًا، والتاريخ الحديث كاتبًا، ودراسة الظواهر الأدبية في الرواية ناقدًا، واللعبة المسرحية كاتبًا يشدّ الرحال، إلى أم القرى، باتحثا عن الحقيقة وفي كتابه (جسر الجمرات)، يقتفي أثر الدلالات الدينية والتاريخية، وفيه يتحاور  أستاذ التاريخ والكاتب بصحيفة الأهرام المصرية مع العديد من الشخصيات التاريخية التي جاءت إلى مكة ووثقَّت للرحلة في مدوناتها الفكرية والفقهية وفي معرض المقارنة بين رحلته (الحداثويّة)، ورحلة ابن جبير نجد أن الثاني اهتم  بالوصف واعتمد على الملاحظة والمشاهدة البصرية غير أنه لم يهتم بالبحث وراء الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولم يهتم بالتعليق عليها أو تفسيرها بينما اهتم مصطفى عبد الغني بمنهج وافق فيه أبو علي المحسّن التنوخي صاحب كتاب (أخبار المذاكرة)؛ وهو أحد أدباء القرون الوسطى العربية فاهتم بـ"المنهج التاريخي مع العناية بالازدواجية الاستطيقية الجمالية والتصوير التجميلي الممسرح للأحداث  حتى يخيل للقارئ أن كل عنوان كتبه المؤلف جاء على شكل قصة فنية؛ فرحلته المدوّنة ليست وصفا جافا للحدث فحسب وإنما هي مشهد ساطع تام الدلالة وعرض كامل للحياة العربية حكاما ومحكومين مدنا وبوادي فجاءت كلوحة مرسومة".
وكما كتبت ليديا جينزبورج في كتابها  (البطل الأدبي) فإن "الاختلاق المنطلق عن الخبرة يخلق (واقعا ثانيا) ويحمل الأدب الوثائقي التسجيلي إلى القارئ معرفة مزدوجة وانفعالا مضاعفا يحفز التأثر وذلك لأنه تتمثل في النفوس معاناة تفاعلية لا تعوض بأي فن في التعامل مع أصالة الحدث الحياتي وتشخص في المقايسة الخصوصية وعدم التطابق التام بين الخطين – خط الحدث الواقعي وخط تأويله الاستطيقي – ديناميكية خاصة للأدب الوثائقي التسجيلي".
وقد لاحظنا كيف لم يحرص د. مصطفى عبد الغني على التنظيم التأليفي لكتابه ككل إلا أنه كشف عن مهارة أدبية وحرفة أستاذية في البناء وفق الموضوع؛ فالكتاب "سرد ذاتي ينزاح عن الحدث إلى الحال موصولا بالموقف – وفق تعبير مصطفى الكيلاني-  وبنزوع جارف إلى الكتابة المعرفة افتراضا بنظام (أسلبة) stylisation يتضمن مجموعة أساليب (كالنص المفتوح) يستقدم إليه فضاء وسيعا من التناص، ولأن للسفر دلالة رمزية خاصة في مجمل تراث المتصوفة والزهاد والحكماء في التراث العربي الإسلامي من المنظور الوجودي بعامة فقد استعان المؤلف بتدلاله signifience  "
وبتحليل العنوان نرى أنفسنا أمام مقطع لغوي يتكون من مفردتين : (المضاف والمضاف إليه) فالأولى كلمة (جسر) وهي تشي بالرغبة لدى المؤلف في العبور والتخطي والخروج من أزمات شتى على المستوى العربي والإسلامي وعلى المستوى الذاتي؛ الخروج أزمة المجتمع الإثني وأزمة الحداثة والديموقراطية والعبور فوق أشواك الماضي العربي المتمثلة في سقوط المشروع القومي 0إن كلمة الجسر هنا تحمل دلالة أخرى هي الرغبة في النجاة والوصول بالسفينة العربية والإسلامية إلى برّ الأمان بعد أن فقدت ربّانها في بحر العولمة وأحادية القطب الأمريكي وانفراده كوحش بفريسته العربية0 وجاء المضاف إليه (الجمرات) ليحمل شحنة من المعاني والدلالات المتشظية في عالم النص/ الكتاب: فالعبور فوق الجسر يقتضي إرادة تنبع من ذات العابرين تتمثل في الرغبة في التطهر؛ فالجمرات تتضمن معنى النيران الملتهبة. والعابرون معادنهم العربية الأصيلة تحتاج إلى تلك النيران لتنفي خبثها وتزيل الران الذي غطى عقيدتها (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) فأضحت عاجزة عن دفع ما حاق بها من هوان ومذلة.
والجمرات هنا أيضا تستدعي صورة (الحاج) في صورته وهو يسير بـ(إزار ورداء) يشبه الكفن، ويشي بصورة الميلاد الأولى، وصورة المحشر في الآخرة فوق (السراط) بين الجنة والنار؛ إنه تمرين على الصبر وتحدي الصعاب وهناك معان ودلالات كثيرة للـ(جمرات) تفجّرت في نفس المؤلف فجّرتها رغبته العارمة في الوعي والمعرفة كدلالة (الرجم) رجم الشيطان بداخلنا / الشيطان: الرغبة والغريزة / الطين / الصلصال/ البدن الذي أضحى سجنا للروح !! والجمرات ربما تكون الإرادة / الحجارة التي سنقذفها على هذا (الجسد / الصلصال) لتحرير الروح / الذات العربية والإسلامية من إسارها وتقشير الران/ الأقنعة الزائفة التي تراكمت فوق وجهنا العربي والإسلامي.
إن القراءة السيميولوجية لكتاب جسر الجمرات وضعت يدها على فيض من المصطلحات جَهَدَ المؤلف في نحتها وإعطائها صيغًا دلالية واقعية وموضوعية بجانب كثير من المصطلحات العقيدية التي درس دلالتها دراسة مستفيضة وجلّاها لنا أبدع تجلية وكان حريصا على أن يكون اللفظ/ المصطلح منحوتا بعناية ليؤدي معناه بدقة ووضوح بحيث لا يقع أي لَبْسٍ في ذهن القارئ أو السامع.
والدكتور مصطفى عبد الغني  في نحته لمصطلحاته انتقى من مخزون اللغة وقاموسها الجمعي ألفاظا تشير إلى ما يفكر فيه وتُسمي ما يراه من هذه الألفاظ التي تغدو عَلَمَا يُعرّف موضوعه، ومصطلحا يميز مادته، تتوسط بين ذات واضعها بما تحمله من طابع ثقافي ونفسي واجتماعي، وما يحركها من أصابع التاريخ وفضاء الجغرافيا وبين موضوع دلالاتها بما يحمله من ثبات المادة ، ورسوخ العنصر وشموله، ومن  ثم – كما يشير صالح غرم الله – "يحمل المصطلح في ظاهره ومضمونه دلالات ذاتية ذات نسق تاريخي وثقافي ودلالات موضوعية ذات خلوص منهجي وإرادة معرفية بقدر غصابته في تمييز ما يَثبُت وتجاوزه نحو ما يستقر فعناصر الذات وطوابعها تجسد في المصطلح حكما منحازا بالضرورة لجماع مكونات الذات في لحظتها الفردية والحضارية وصفات الموضوع وطوابعه تُحَمّله حقيقة الوجود وتُلبسه معنى الـ (يتولّد ويتناسل) وبين هذه وتلك؛ "تغدو المصطلحات مادة الدراسة الاجتماعية والعلاماتية والحفرية المعرفية والبيئية والتاريخية والبنائية والتفكيكية مثلما هي مجال طريف للتملي في حركة الفكر والمفاهيم والتفكير حول ما يصنع تفكيرنا"
وهذا التحديد الدقيق في المصطلح يعني "انحسار سلطة الذات عليه ،وبروز استقلاليتها بين الموضوع والذات بما يجعله شفيفا عن مدلوله ومطابقا لموضوعه حيث يتخذ المصطلح هنا صفة موضوعية هي نتاج منظور منهجي ابستمولوجي تتحقق به علمية العلم.
والمؤلف في سعيه الدؤوب لإنتاج المصطلح كان حريصا على طرح سؤال مازال يؤرق الباحثين العرب والسؤال هنا ينجم عن مادة العلم وهي الواقع الحي في مستوياته وجوانبه المختلفة إذا كانت المصطلحات وحدودها ومفاهيمها تحيلنا على واقعية هذا الواقع "فلماذا نُعنى بالمصطلحات ولا نُعنى بالواقع ؟ ألم نقل إن المصطلحات آلية ضبط وتحديد للدلالة بحيث تصل لغة الخطاب العلمي (على إطلاقه) من خلال المصطلحات إلى مستوى الشفافية والمطابقة في الإشارة إلى الواقع؟ أليس الواقع في مستوى أغراضنا النفعية والعملية وفي مستوى فضولنا العلمي وشهيتنا إلى المعرفة".
"هذه التاريخية في المصطلحات منفذ لإدراك خصوصية الوعي فيها ونسبية القيمة وأن نؤرخ للأفكار بها التاريخ المبين للجامد والنامي والإنساني والمحلي والفاعل والمنفعل والأصيل والدخيل بوصفها إشارات دالة: من وجهة الوجود الاجتماعي وعلاقته في مكان وزمان معينين ومن وجهة التغير والتحول المطلق في الوعي المعرفي دون تحديد لإطلاق هذا التحول بقيد من صفات التقدم أو التطور أو الرقي لأن أي علم راق ومتطور ومنظم ما هو في الحقيقة إلا محصول من معاناة الأفكار والصيغ المختلفة للوعي ورث السابق ويورّث اللاحق فهو القديم وما يجاوزه وهو ما أُخذ به من الماضي وما لم يؤخذ به في الوقت ذاته"0
وهذا ما يشير إليه مصطفى عبد الغني بقوله  (غير أنه ليكتمل المعنى أكثر لا ضرر في الخروج من الذات إلى العام ولا فارق بينهما ولا فارق في هذا الأمر الفصل بين الذات والعام إن التغلب على الفردية إنما هي – درجة من درجات- الوعي بالذات الجماعية أي تبلور الأمور عبر الشعوب وما تلاقيه من تحديات اليوم ، إن الشعوب تخرج لرجم الشيطان ولكنها جميعا تستطيع – وهنا معنى الرجم الحقيقي – أن تحارب الشيطان وتنتصر عليه وحين نقول الشعوب يصبح المثقفون والمتعلمون في الطليعة).
و"بناء الوعي بالمعرفة في تمرحلها تأريخيا يستصحب من خلال التاريخية في المصطلحات سياقها الاجتماعي. فالمجتمع المنج لمصطلحاته الخاصة يتمتع حتما بقدرة على بناء أفكاره ويجهد في تركيب وعيه وبناء تاريخيته وفضاءاته الثقافية والرمزية المائزة. وذلك يقودنا إلى مسألة الترابط بين القوة والخطاب الذي تمثله المصطلحات بوصفها : دوال على حقائق دلالة تجعل لها نسقا دالا في التاريخ فالعلاقة بين الخطاب والقوة منظور نافذ في تحليل دلالة الخطاب على الحقيقة"0
لكننا – في المقابل – "لا نستطيع أن نغفل في المصطلح معرفيته فهو ينطوي على خصوصية ويمتد في فضاء النسبية إلى تاريخ له مقوماته وتوجيهاته وإلى سياق من معترك اللغة الذي يشخّص وعي بنيها ومعرفتهم الجمعية، ينطوي أيضا على رغبة معرفية تمثل الإرادة الموضوعية في الوصف أو الكشف الذي ينتهي على نتائج ذات قيمة في ميزان العلم والأدب ولنا أن نقول هنا إن (إرادة المعرفة) جزء أساس في تكوين اللاوعي في خطاب المصطلحات يلتقي مع (إرادة القوة) وسائر المكونات التاريخية ذات العلاقة بخطاب المعرفة وبينهما جدلية تأثر وتأثير وتناقض وتغالب واتصال وانفصال على مستوى الموضوع في إنسانيته أو طبيعيته أو تجريديته وفي محليته أو عالميته من جهة وعلى مستوى العالم / المؤلف / (المُنظّر) في امتيازه وتفرده وايديولوجيته ومنهجه من جهة ثانية وعلى مستوى اللحظة التاريخية الاجتماعية في علاقات قواها من الداخل، وفي علاقتها بما هو خارجها : من الماضي ومن المعاش الراهن ومن المترقب القادم من جهة ثالثة".

تعليق عبر الفيس بوك