عبيدلي العبيدلي
سؤال تردده ألسن من يتابعون حركة قاعدة المسرح السياسي العربي: إلى أين يتجه العرب؟ ونحو أيِّ مصير يقودهم واقعهم الحالي، بكل ما يحمله من إمكانات ذاتية، وتحالفات دولية، ومعاهدات إقليمية؟ وهل في وسعهم أن تكون لهم كلمة مسموعة في المحافل الدولية؟ تتشعب الإجابات، وتتنوع الاستقراءات. لكن ما يؤسف له حقاً، وما يحز في النفس، أنَّ الإجابات على تعددها تصب في طاحونة تشاؤم مفرط في نظرته السوداوية عندما يتعلق الأمر بمستقبل المنطقة العربية، ومصيرها المظلم الذي، من وجهة هؤلاء المتشائمين، يتربص بها.
تبدو الصورة القائمة قاتمة للوهلة الأولى، تسور إطارها بقع مظلمة على الصعد كافة. ولا يلوح في الأفق ما يبشر بخير. فالخلافات الداخلية تتصاعد، والمشكلات ليس بين الأقطار العربية الواحدة ضد الأخرى، فحسب، وإنما داخل القطر العربي الواحد أيضاً، لا تعرف حدودا، وتزداد تصاعدا. وفوق هذا وذاك يتسع ثقب التدخلات الأجنبية التي باتت رقماً شبه ثابت في مُعادلة العلاقات العربية الداخلية، حتى في نطاق الدولة الواحدة.
حتى النفط، الذي طالما شكَّل رافعة اقتصادية تُساعد على حل الأزمات الداخلية، ويحول دون تفاقمها، تهاوت أسعاره، وتراجعت أهميته الاستراتيجية نسبيًا، وتبخرت نسبة عالية من عوائده، ومن ثم فوائضه، وانعكس ذلك سلبًا وبقوة على المكانة المتميزة، نسبيا، التي تبوأها العرب في منتصف الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي.
ليس هناك من في وسعه لوم هؤلاء المتشائمين، وعلى وجه الخصوص الفئة الشابة بينهم. فالاقتتال العربي – العربي يمتد من أقاصي مغربنا، حتى أداني مشرقنا. فما نشهده اليوم من اقتتال عربي –عربي، لا ينحصر داخل الأسرة العربية، بل راح كل فريق من الفرق المتقاتلة يستنجد – ضد أخيه - بأقرب يد أجنبية تمتد له، متوهماً أنها تقوم بذلك نصرة لمبدأ دون آخر، أو نجدة لحليف ضد آخر. وفي خضم هذه الصور العربية الضبابية، المتراكبة تتراجع المقاييس، إن لم تنسف، وتتقزم الأهداف إن لم يضحى بها، من أجل مكاسب هزيلة، تشكل في مُجملها حالة لم يعرفها العرب من قبل في تاريخهم المعاصر.
في غمرة هذه الصراعات، التي تطورت فتحولت إلى معارك عسكرية تستخدم فيها أقوى الأسلحة وأكثرها تطورًا وأشدها فتكا بالبشر، ودمارًا بالعمار، بما فيها الأسلحة الكيماوية، التي لا يستبعد أن تكون مطعمة ببعض أنوية الأسلحة الذرية ذات المدى المحدود، تناسى العرب، وربما غابت عن أعينهم وأذهانهم مجموعة من الثوابت التي ترسم معالم الواقع، وتحدد أطر المُستقبل.
أول تلك الثوابت، هي أنه مهما اتسعت مساحة التطابق بين مشروع هذا الفريق العربي أو ذاك مع حليفه الأجنبي، يظل هناك هامشا من التعارض القابل للاتساع، إن لم يكن في المستقبل المنظور، فهو آت لا ريب في المستقبل القريب. هذا التعارض الذي نتحدث عنه، يبدأ بالتناقض الحضاري، ثم يتدرج هبوطاً نحو التنافس الاقتصادي، قبل أن يصل إلى مستوى التزاحم التجاري. ومن ثم فمن غير المنطق أن يتناسى العرب وهم في غمرة تنازعهم غير المسبوق ذلك الهامش من التعارض الذي سيطل برأسه أمام الجميع، بمن فيهم من كان حليفا لذلك الأجنبي الغريب.
ثاني تلك الثوابت، أنه ما زال بين يدي العرب، وبحوزتهم الكثير من عناصر التآخي، بدلاً من عوامل الخلاف، التي بوسعها أن تضع حدًا، ولو بشكل تدريجي وبطيء، لكنه متواصل وثابت، لكل أشكال التباين، ومكونات الشقاق. فهناك العمق الحضاري أولاً، والتواصل الجغرافي ثانيًا، والجذر العرقي، ثالثا، والتكامل الاقتصادي رابعًا وليس أخيرا. جميعها، بشكل متكامل، أو كل منها على حدة، بوسعه أن يشكل رافعة تاريخية من أجل التآخي الطبيعي والمنطقي، بدلاً من التنافر المصطنع.
لن يكون الأمر بالسهولة التي قد يتوقعها البعض، شأنه في ذلك شأن كل المشروعات الكبرى التي تتصدى لها الأمم الحيَّة، حينما تجد نفسها أمام مفترق طرق يتطلب اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل الأمة. ومن ثم أصبح تغيير الواقع يتطلب مدخلاً متميزاً يتلاءم وطبيعة تلك التحديات ويملك القدرة على وضع الأمور في نصابها، والأقدام على الطريق الصحيحة التي ينبغي علينا أن نسلكها كي ننتشل الأمة من واقعها، وننقلها النقلة السليمة التي تعيد لها مكانتها المتميزة التي تستحقها.
والخطوة الأولى على هذه الطريقة الوعرة الملتوية، هو استعادة التوازن في التفكير العلمي، الرصين، والمتماسك، البعيد عن النظرة المغرقة في سوداويتها، دون إنكار الوضع السيئ الذي تعيشه هذه الأمة. مثل هذه النظرة الموضوعية، من شأنها أن تساعد على تشخيص الأعراض، ووضع اليد على الداء، وتحديد الدواء.
تأتي بعد ذلك الخطوة الثانية، وهي النبذ المطلق لفكرة الاستعانة بالأجنبي، مهما طلى سحنته بالمساحيق التي تحسن صورته وتخفي وراءها نواياه الخبيثة التي يبيتها. فمهما حاول ذلك الأجنبي أن يطابق بين مشروعاته ومشروعات الأمة، تبقى هناك هوامش الاختلاف التي لا بد أن تطل بوجهها البشع يومًا ما. وعندها سيكتشف الطرف العربي، لكن بعد فوات الأوان، حقيقة ذلك الأجنبي، ومآربه التي نجح في إخفائها طوال تلك المدة.
أما الخطوة الثالثة وهي الأكثر أهمية وإلحاحاً، فهي ليس التخلي عن المشروعات الوطنية، ولكن ضرورة الحرص على تكاملها مع المشروع العربي القومي الأم. وهذا يقتضي تحاشي الغرق في أوحال المشروعات القطرية الانفصالية التي يعمي بريقها المزيف الأبصار، ويحول الأنظار عن الطريق الصحيحة التي توصل إلى الأهداف القومية الكبرى.
ليس المقصود هنا التخلي عن المهام الوطنية، اقتصادية كانت أم سياسية، بل وحتى الاجتماعية منها، لكن ينبغي أن تأتي برامجها في سياق مشروع قومي متكامل. حينها فقط، سنتمكن، ليس من حماية حدودنا القومية، والدفاع عن مكاسبنا الوطنية، بل سيشكل العرب رقمًا صعباً مهماً في معادلة العلاقات الدولية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بشؤون منطقة الشرق الأوسط بالمفهوم الواسع لهذا التعبير.