أبعاد إستراتيجيَّة (8)

 

التعليم العالي الخاص.. زاويةٌ في صورةٍ غير مكتملة

 

د. هلال بن سعيد الشيذاني

التعليم قاعدة رُقي الأمم، وبه تعتلي الدُّول منصة القيادة في العالم، لأنه مؤشر على خبرات المجتمع وكفاءات أبنائه وبناته. وهو في ذات الوقت، خصوصا العالي، أحد مصادر الثراء الوطني، إذ يمثّل القبة التي تُظلُّ العلماء والمتعلمين، وقطب الرحى الذي يجمع الأكاديميين والباحثين والمبتكرين، ومكتباته رياض الفكر والمفكرين، وفيه تنشأ الفرضيات وفيه تتم التجارب وتخرج إلى العالم النظريات والمعادلات، وبين جنبات مؤسساته تولَد الابتكارات وينمو العقل الإنساني مع الزمن.

وقد أوْلَت الدول المتقدمة الاهتمامَ بالتعليم، والسلطنة أولت التعليم أهمية كبرى منذ فجر نهضتها المباركة، وكان من الحرص السامي لعاهل البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- أن أمر بدعم الجامعات الخاصة بمبالغ مالية لتأسيس وجودها كمؤسسات علمية، وليُسهل عليها النهوض بالقطاع، فحددت الجهات الحكومية المختصة هذه المنحة لبناء حَرَم الجامعات. فأضافت الجامعات إلى تلك المساهمة مبالغ أخرى لتشيّد المباني اللائقة بها كمؤسسات تعليمٍ عالٍ مؤهلة للسير في مسار الجامعات العالمية في مهامها الثلاث؛ وهي: التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع. ومؤطرة ذلك بالابتكار الذي يعتبره البعض المهمة الرابعة للجامعات. إلا أن الصورة لم تكتمل زواياها، فالتعليم العالي الخاص، يواجه ثلاثة تحديات أساسية، ليقوم بدوره كرافد من روافد المعرفة والاقتصاد والنماء الاجتماعي، هي ملكية الأرض، وواقع الاستثمار، والرسوم الدراسية.

وفي ظلِّ العولمة، تدخل الجامعات المحلية حلبة التنافس مع الجامعات الإقليمية والدولية، وإن كانت عُمان تتميز -بفضل الله- ومن ثم حكمة قيادتها، والخلق الكريم لشعبها، بمميزات تشجع الدارسين على القدوم إليها للدراسات الجامعية والعليا، إلا أن هذه المميزات لا تتحول إلى مكتسبات إلا حين تدعمُ القطاع وتُسهم في الصعود به إلى مستويات المنافسة. ولن تتمكن هذه المؤسسات من أن تضع أقدامها على حلبة المنافسة، إلا أنَّ تحولت التحديات إلى عوامل دعم ومنافسة.

ففي حين أنه يتم تمليك العديد من المصانع وحتى رجال الأعمال مساحات كبيرة من الأراضي التي لا تزال أراضٍ فضاء لسنوات طويلة لم تُستثمر، فإنَّ الجامعات تواجه مشكلة تملكها للأراضي التي تضخ ملايين من الريالات فيها لبناء منشآت ومبانٍ تفي بمتطلبات عملها، زيادة على الدعم الحكومي الممنوح لهذا الشأن. وهو ما يضيف إلى الجامعات فوق أعبائها في التعامل مع الجوانب العلمية والأكاديمية والتحديات البحثية، عبئًا آخر، أقل ما يوصف به هو أنه يقودها إلى الإحساس بأنها كالسفينة في مهب العاصفة لا تدري هل ستصل إلى أقرب شاطئ فتسلم، أم أن عاصفة التحديات المالية ستقود بها إلى الغرق بين موجتين من أمواج محيط التحديات. وهذا أمر مهم وعاجل يحتاج إلى اتخاذ قرار يدعم الجامعات ويدعم وجودها في ساحة المنافسة الإقليمية والعالمية، حتى نحقق تعليما عاليا عالمي المكانة، ونؤسس لمنظومة من الجامعات التي تسهم في تنويع مصادر الدخل، من خلال برامجها الدراسية، والبحوث والدراسات التي تجريها، ومن خلال الابتكارات التي تُزهر بين جنباتها. فعلى سبيل المثال، تشير الإحصاءات المنشورة في موقع (UKCISA) إلى أن عدد طلاب التعليم العالي في المملكة المتحدة خلال العام الأكاديمي 2015/2016 بلغ قرابة 1.7 مليون طالب وطالبة من بينهم حدود 127 ألف طالب وطالبة من الاتحاد الأوروبي، وأكثر من 310 آلاف طالب وطالبة من الدول خارج المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ فبكم يسهم هذا القطاع في الدخل القومي، حين يدفع هؤلاء الطلاب الرسوم الدراسية، وتكاليف المعيشة...وغيرها؟

ويبرز دعم الجامعات من خلال الهبات المقدمة ومجالات الاستثمار كتحدٍّ آخر. ففي حين أن جامعات العالم أصبحت تمتلك أرصدة كبيرة وممتلكات تضمن لها الاستمرار لسنين طويلة دون الحاجة إلى الدعم الحكومي، لا تزال الجامعات في السلطنة تواجه مشكلة السماح لها بالاستثمار، ولعل إحدى ركائز هذا التحدي هو عدم تملّك الجامعات للأراضي التي شيدت عليها مبانيها. ولستُ أعلم المبررات ولا الدواعي التي تقيّد التوجه نحو الاستثمار، وخصوصا في ظل خطط وطنية تدعو إلى تنويع مصادر الدخل وتفعيل الاستثمار ليوجِد قاعدة غير نفطية في السلطنة. فكما أن السياحة والصناعة واللوجستيات تمثل قطاعات مهمة، فإن التعليم يمثل قطاعا كبيرا في كثير من الدول. وهنا يبرز المثال الأمريكي، حيث نشر موقع (Business Insider) دراسة نُشرت في (Wall Street Journal) في عددها الصادر في 25 من يناير 2017، أن جامعة هارفرد الأمريكية تعتبر الأعلى في الهبات والاستثمار وقد بلغت عوائدها من هذا القطاع 35.7 مليار دولار خلال العام 2016. وحسب ما أشار إليه الموقع ذاته أن جامعة ييل (Yale University)، حققت أكبر نسبة عائدات استثمار خلال العام الماضي بنسبة 3.4%، وهو دلالة واضحة على دور الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في رفد الاقتصاد الوطني بمصدر من مصادر الدخل.

ويبرز التحدي الثالث لمؤسسات التعليم العالي من خلال الرسوم الدراسية؛ ففي حين نجد أن بعض المدارس الدولية ورياض الأطفال، تكلف ولي الأمر آلاف الريالات سنويًّا، نجد أن الجامعات والكليات الخاصة مقيدة بشكل كبير في حدود الرسوم التي تقررها، في مقابل نوع التعليم المقدم في الجهتين والفوارق الرئيسة بين القطاعين. ففي حين يتم توظيف معلمين وافدين أو عمانيين في المدارس الخاصة بمؤهلات جامعية أو ماجستير كحد أقصى، نجد أن الجامعات مطالبة بتعيين حملة دكتوراه، وأساتذة مشاركين، وأساتذة لهم خبرات طويلة وبرواتب عالية. وكما أن برامج رياض الأطفال لا تتطلب الكثير من الأسس، فإن الجامعات مطالبة بتوفير مكتبات كبيرة تقتضي وجودها الدراسة الجامعية، ومعامل تكلف مئات الآلاف من الريالات وفنيين يتوجب توظيفهم من أجل أن يقوموا بخدمة الطلاب ومساعدتهم في إنجاز تجاربهم وأعمالهم.

ويبرز البُعد الإستراتيجي للتعليم العالي الخاص في خدمة الاقتصاد الوطني والرفاه الاجتماعي، لكن ليس في ظل التحديات الثلاثة، ولم يناقش المقال أفكارًا لم تُطبق، بل هي ركائز يقوم عليها قطاع التعليم العالي في كل أنحاء العالم، وقد أثبت، مع وجود القوانين واللوائح المنظّمة التي تحقق المنفعة وتمنع الضرر والضرار، أن التعليم العالي مصدرٌ اقتصادي كبير وركيزة استراتيجية مهمة، لأنه لا ينمو في معزل عن القطاعات الاقتصادية الأخرى، وإنما يعمل على دعمها وتقويتها في ظل مهامه الثلاث.

  تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك