قريّات.. في الذاكرة الإنسانية

في الطبعة الثانية من كتابه الثاني (قريَّات عراقة التاريخ وروعة الطبيعة) المسبوق بكتابه (قريات ماض عريق وحاضر مشرق) يسعى الباحث صالح بن سليمان الفارسي إلى التجديد في الشكل والمضمون وإضفاء نوع من الخصوصية على جهوده في مجال التأريخ العماني (المصوّر)، والمحتوى المدعوم بالأدلة والمصادر التاريخية والحكايات الشعبية.
وتأتي هذه الطبعة الجديدة من الكتاب لتحمل ثيمة مختلفة يتجلى فيها التركيز على جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبيئة الطبيعية، ومحاولة توثيق بعض العادات والتقاليد المجتمعية.
وقد حاول المؤلف صالح الفارسي باذلا جهده في أن يكون الكتاب حاويا على المزيد من المعلومات للتعريف بالحياة والبيئة القديمة في قريات، والتذكير بشذرات بسيطة ومفيدة من الألفاظ التراثية الشائعة في الولاية وبعض المصطلحات القديمة وقد جاءت تلك المفردات داخل تضاعيف الكتاب ومنسوجة داخل السياق العام، وطبقات الصياغة التعبيرية بهدف تذكير الأجيال القادمة بلهجة من سبقوهم.
انطلق صالح الفارسي في كتابه (قريَّات عراقة التاريخ وروعة الطبيعة) من واقع الأرض وحقائق الجغرافيا، والعمق التاريخي والحضاري، حيث تزخر قريات ببيئات متنوعة وحياة فطرية وحيوانية ونباتية نادرة، أسهمت على مدى العصور في نماء الحياة الطبيعية وتطور الحضارة الإنسانية، كما تستقطب الولاية على سفوح وقمم جبالها وضفا أوديتها نسبة كبيرة من السكان، خاصة في القرى الجبلية والسهول المنخفضة، التي تتمتع بتوافر المياه ونمو الزراعة.
مكانة قريات الاستراتيجية تتأتى من وقوعها على شريط ساحلي ممتد بجهتها الشرقية حيث شكّل لها أهمية استراتيجية منذ القدم كمحطة بحرية وواجهة مهمة على بحر عمان والمحيط الهندي وأصبحت مركزا اقتصاديا حيويا وبوابة رئيسة مهمة للسلطنة بسبب ثروتها الطبيعية المتعددة وموقعها المتميز.
كما أسهم موقعها البحري في تعزيز نشاطها الفكري والتجاري والبحري، والذي تفاعل منذ القدم مع ما قام به العمانيون من تبادل ثقافي وحضاري مع مراكز الحضارات الإنسانية في العالم القديم؛ وذلك من خلال الاتصال بالعالم الخارجي عبر البحار والمحيطات.
كما إن الموقع الجغرافي للولاية أعطاها ميزات متعددة أغنت الحياة الطبيعية والتاريخية والاقتصادية فيها، وأسهم إلى حد كبير في شهرتها في مجال الزراعة، حيث تتوافر التربة الخصبة الناتجة عن التسربات التي تندفع مع المياه الجارية من الجبال المحيطة، بالإضافة إلى توافر مصادر المياه الجوفية، والأودية والأفلاج والعيون الخصبة.
وأسهم موقع قريات الجغرافي أيضا في ازدها الحركة التجارية والسياحية، ونمو الصناعات الحرفية التي ارتبطت بالنشاطات الاقتصادية للسكان، بالإضافة إلى تعدد الثقافات وتنوع اللهجات والموروث الشعبي والعادات والتقاليد، ويمكن ملاحظة هذا التنوع والثراء اللغوي في الخصائص الصوتية بين سكان الساحل وسكان الجبال والصحراء، وسكان الريف، خاصة في مخارج الحروف ونطق الكلمات والألفاظ، واختلاف بعض المصطلحات.
كان من الرائع أن نجد المؤلف يتجه إلى (التوثيق الشفاهي) أيضا، فعرج بنا على الحكايات والقصص والأساطير التي يتداولها أهل قريات من جيل إلى جيل والمرتبطة بوعي الناس وحياتهم وعاداتهم وارتبطت بمخيلة الناس ومعتقداتهم وذاكرتهم الشفاهية وتأويلاتهم النفسية، وتم رسمها لتتناسب مع طرائق علاجهم وتسخيرها لتحقيق أمانيهم وحاجاتهم الملحة وفق رؤيتهم لثقافة مجتمعهم وزمانهم.
ويتوقف ذلك لمعطيات وسيناريو تلك الحكاية أو الأسطورة وقوتها، وأهمية ومكانة تلك الأمكنة في متخيل العامة؛ حيث شكلت على مر الأيام ذاكرة وسلوكا فرديا وجماعيا، لها ارتباط خيالي وشعوري وفلسفي بأهمية وتأثير تلك الأمكنة وما تدور حوله الحكاية، وتناقلته أفواه الناس فيما بينهم كموروث شعبي، وكان لها تأثير على الثقافة العامة والشعبية والتراث الفكري والشفهي للأفراد.

تعليق عبر الفيس بوك