إسحاق نيوتن والوضع السياسي في العالم (3)

 

د. راشد بن علي البلوشي

حتى لا نعلق هزائمنا على شماعة نظرية المؤامرة (وحدها، بأن ما يجري في العالم العربي والإسلامي مخطط له من الخارج لإضعاف العرب والمسلمين بالإرهاب حتى يستمروا في استيراد الأسلحة من الغرب) وجب أن نقول إن أحد أهم أسباب الضعف والتشرذم والوقوع في فخ التآمرات الدولية وحسابات المصالح بين القوى الدولية والإقليمية هو الخلاف والفرقة بين الأشقاء. يقول أحد السياسيين اليمنيين (مؤخرا) "تعلمنا أنه لا بد لنا من تقديم التنازلات لبعضنا البعض حتى لا نضطر لتقديم التنازلات جميعا لغيرنا" (ويقصد هنا أعداء اليمن). نأمل أن تجد هذه الكلمات وهذا الفكر السامي الذي يتعالى فوق الرغبات الشخصية والمصالح الضيقة صدى لدى الأخوة في اليمن والأخوة في دول الخليج العربية وغيرها من دول العالم حقنا للدماء ودرء لما هو أخطر.

يخالف الطرح الذي نتبناه في هذا المقال حقيقة أنّ كثيرا من الهجمات الإرهابية قد طالت دولا عربية وإسلامية (وهي الدول التي كانت ضحية للاستعمار من الدول الكبرى المستبدة) ولذلك يبدو أن "فعل" الإرهاب لم يكن "ردة فعل". ولكننا نعلل هذه الأحداث المؤسفة في بلاد العرب والمسلمين بحقيقة أن هذه الدول وفي بعض مراحلها وفي فترة حكم بعض أنظمتها وربما من خلال بعض أجهزتها الحكومية كانت قد تبنت سياسات أدت إلى نمو مكونات الإرهاب أو مواده الخام من تمييز وتكفير وكراهية وفتن وتخوين وعنف وتشدد وتعصب وتطرف ونبذ ورفض للآخر وإقصاء للآخرين واستبداد بالرأي واستفراد بالقرار والتخطيط وتهميش للآخرين وظلم اجتماعي وقضائي وتجاوزات من قبل الأجهزة الأمنية وأجهزة الشرطة. ولذلك فقد قامت هذه الأنظمة وبطريقة غير مباشرة بـ "فعل" استوجب، وحسب قوانين الطبيعة، "ردة فعل" من جانب المستضعفين والمغلوب على أمرهم في تلك الدول. نسأل الله الحكمة لأولياء الأمر والعفو والعافية للجميع.

وحتى لا نختم بطريقة تشاؤمية نود التذكير بأن الأفضل ممكن وليس صعبا أو مستحيلا. بعد زيارته الأخيرة للسلطنة، يقول المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم أنّ ما وجده في عمان من تسامح ديني وتفاهم اجتماعي أعطاه الأمل في أن الأفضل للشعوب الإسلامية وغيرها ممكن إذا كانت عندنا الشجاعة على التحلي بالحكمة والحِلم حتى ولو كنا الطرف الأقوى أو الأغلبية في المجتمع.

طبعا كانت هناك عوامل كثيرة وصلت بالوضع السياسي والاجتماعي في عمان إلى ما هو عليه، أهمّها لطف الله تعالى بالبلد التي دخلت الإسلام من غير حروب، وكذلك دعاء النبي الكريم (عليه الصلاة والسلام) لها، ومن ثم الشخصية العمانية الإيجابية التي تواصلت وتعاملت وعلمت وتعلمت من كثير من الشعوب والحضارات المحيطة بنا. ومن أهم هذه العوامل أيضا حكمة القيادة السياسية التي خططت ورتبت لعمان وشعبها ما يضمن أمنهم وسلامتهم في الداخل والخارج (نعوذ بالله من الحسد) وسنت من القوانين والتشريعات ما يكفل الحقوق ويضمن العدل والمساواة. يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رضي الله عنه): "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

وعلى الصعيد الخارجي فقد اقتضت حكمة السياسة العمانية اتباع سياسة متوازنة حصنت من خلالها عمان من فتن وأخطار الداخل والخارج. حيث وقفت على نفس المسافة من الأشقاء والأصدقاء المتخاصمين والمتناحرين في منطقتنا العربية والعالم، ولم تشارك سرا أو جهرا في محاولات تغيير الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الدول، وذلك أن جلالة السلطان المعظم (حفظه الله ورعاه) علم مسبقا بأن من يصدر التطرف والإرهاب لا بد وأن يستوردهما يوما ما، و ذلك لأن من يصدر سلعة ما فهو يصنعها، و من يصنع سلعة ما فهو يمتلك مكوناتها و وادها الخام، ولذلك فإن المصنِّع لابد وأن يحتاج لأن يطور منتجاته وأدواته ولذلك فإنه سوف، و لابد، من أن يستورد تلك السلعة. حفظنا الله وسائر بلاد المسلمين والعالم منهما ومن مكوناتهما ومنتجاتهما وأدواتهما. (قيل قديما "طابخ السم آكله"). وكانت النتيجة المأمولة هي بقاء المجتمع العماني قويا متماسكا رغم أنه يتكون في مجمله من قبائل وطوائف دينية أكثر مما يوجد في بعض البلدان التي تشهد صراعات وويلات حفظنا الله منها. و السبب في ذلك هو أن السلطان قابوس (الذي ورث إمبراطورية مترامية الأطراف، أو على الأقل كانت كذلك حتى وقت قريب) استطاع بحكمته وبعدله أن يجعل كل هذه المكونات تعيش في سلام وأمان وتعاون، ولذلك فقد رفض عروض التحالف والتحزب والتمترس. وذلك لأنه علم أن نتائج تلك التحالفات ستكون سلبية لعمان وشعبها. وباختصار فإن جلالته أراد أن يعيش في سلام وأن يدع الآخرين يعيشون في سلام. فقد آمن بتلك الثوابت وعلم يقينا أنها السبيل إلى الاستقرار والسلام، ولذلك لم يصدر عنه أو عن حكومته أي "فعل" إلا ما كان "رد الفعل" عليه خيرا لعمان وأهلها. يقول الله تعالى: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرًا وما يذكر إلا أولوا الالباب". صدق الله العظيم.

 

أستاذ اللغويات المساعد

جامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك