علي المعشني
كتب السياسي ورجل الدولة التركي أحمد داؤود أوغلو منذ أيام مقال بعنوان "أزمة النظام الإقليمي في الخليج" هذا المقال من رحم نظريته الأكذوبة "العمق الاستراتيجي"، تلك النظرية التي أطلقها لتخديرنا بالصحوة التركية على أهميّة العمق العربي لها، وتبين لنا أنّها مجرد أحلام طورانية لبعث الاحتلال العثماني بقوى ناعمة وتمرير المخطط الغربي في فصول ربيعه بتدمير الأقطار العربية الفاعلة وعلى رأسها الجمهورية العربية السورية خدمة للكيان الصهيوني وأمنه القومي المزعوم.
يصف أوغلو أزمة الخليج – والتي خصص المقال لتحليل جذورها بـ: "هذه الأزمة في الواقع لا هي ثنائية بين قطر وجيرانها الخليجيين، ولا هي معزولة جغرافيًا أو مقتصرة على منطقة الخليج. بل على العكس من ذلك هي أزمة إقليمية، حيث إنّها تمثل النتيجة المباشرة لغياب نظام إقليمي مستدام في الشرق الأوسط. وقد أدّى غياب هذا النظام الإقليمي المستدام والذي يتمتع بالشرعية إلى زرع بذور عداوات خطيرة ومنافسة منهكة، أدّت لخلق حلقة مفرغة من الصراعات السياسية في المنطقة".
ويقول في فقرة أخرى من المقال:" على مدى القرنين العشرين والحادي والعشرين، كان أكثر وقت اقترب فيه الشرق الأوسط من تشكيل نظام إقليمي ناشئ يتمتع بالشرعية هو سنة 2012م عندما بدأ كما لو أنّ بعض الطاقات المجتمعية والمطالب بدأت تشكل المسارات السياسية، وهو ما كان سيؤدي في المقابل لتوفير الأسس الفكرية والطمأنينة السياسية للنخب الحاكمة من أجل الانخراط في تأسيس نظام إقليمي جديد، لو أنّ هذا المسار سمح له بالنجاح، إلا أنّ هذا المسار تم إجهاضه".
يتباكى أوغلو في مقاله كجميع شركائه في الدم السوري على تبخر أوهامهم وتلاشيها كسراب شيطاني تبناه السيد الأمريكي ووعدهم بفردوسه وجني ثماره في زمن قياسي لا يتعدى الثلاثة أشهر، تلك الشهور الحلم والتي طالت لتتجاوز السبع سنين العجاف وبمفاصل وتفاصيل ونتائج مؤرقة جدًا لهم.
لا يخفي أوغلو دموعه وتباكيه - عبر كلمات وسطور مقاله - على العام 2012م والذي وصفه بالعام المثالي لقيام ما أسماه بالنظام الإقليمي المستدام في الشرق الأوسط، دون الغوص في التفاصيل، ولكنّه رثاه بالاعتراف بأنّه تمّ إجهاضه ولم يسمح له بالنجاح، دون أن يشرح أوغلو سبب الإجهاض أو الحرمان من النجاح ومن يقف وراء ذلك.
لاشك عندي أنّ شخصا بحجم ومكانة أحمد داؤود أوغلو لا ينطق عن الهوى في حديثه عن هكذا أزمة ولا يخفي أوهامه ولا رثاءه للمشروع الحلم، فما لذي حدث يا تُرى في العام النكبة 2012م وتسبب في فشل المشروع وإجهاضه!؟
كان العام المذكور هو العام المثالي للشركاء في الدم السوري بخصوصه والدم العربي بعمومه تحت عنوان "الربيع العربي "، وكانوا في عز نشوتهم وغطرستهم وغرورهم بنجاحاتهم وانتصاراتهم ويقينهم بأنهم أصبحوا على بعد خطوات معدودة للنصر النهائي وإسقاط أحلامهم على أرض الواقع، حيث تم اغتيال معظم عناصر خلية الأزمة في سوريا وتم تجميد عضويتها بنفوذهم في الجامعة العربية، وسيطر حلفاءهم من التنظيم الدولي للإخوان على مفاصل الدولة في كل من مصر وتونس وليبيا، الأمر الذي دفع بأردوغان إلى توعده السوريين بأنه سيصلي العيد القادم في الجامع الأموي بدمشق، ودفع بمفتي الناتو يوسف القرضاوي إلى توعد السوريين بأنّه سيخطب الجمعة وسيصلي بهم بالجامع الأموي عن قريب، ودفع بأوغلو حينذاك لزيارة طهران كوزير لخارجية بلاده والالتقاء بنظيره الإيراني علي صالحي، وكان ذلك قيبل شهر رمضان المبارك حيث دار بينهم الحوار التالي:
أوغلو: بحسب معلوماتنا المؤكدة فإنّ بشار الأسد سيرحل خلال الأسابيع القليلة القادمة وأنه لن يحتفل بعيد الفطر القادم في دمشق، ونصيحتي لكم أن تتخلوا عن دعمه فورًا ونحن سنضمن لكم في المقابل مصالحكم في سوريا ونحفظها بعد رحيل بشار وكما كانت في عهد بشار.
فرد صالحي: ونحن في إيران على يقين تام بأن بشار سيحتفل بعيد الفطر القادم وأعياد كثيرة قادمة في دمشق، ونصيحتنا لكم أن تتخلوا عن دوركم في مشروع تدمير سوريا ونحن على استعداد للسعي لدى نظام الرئيس بشار لتجاوز الخلافات وفتح صفحة جديدة معكم.
وفي موسكو كان النائب اللبناني وليد جنبلاط يحاول أن يفهم من أصدقائه الروس سر صمود بشار رغم حجم المؤامرة وضراوتها!؟ فيأتيه الجواب من رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الروسي (الدوما): بشار سيزول حين يزول الاتحاد الروسي من الوجود، وعليك أن تراجع سياساتك وتبني تحالفاتك مع سوريا ونظامها على هذه القاعدة إن قبلت نصيحتنا.
وكان في موسكو كذلك وفد سوري لطيف من أطياف ما تُسمى بالمعارضة السورية برئاسة هيثم مناع قادمًا من القاهرة، حيث سمع مناع من جميع المسؤولين الروس الذين التقاهم عبارة تأكيدية واحدة شديدة الصراحة والوضوح وهي: لن نسمح لأحد بهزيمة الجيش العربي السوري. وسمع قبلها في القاهرة توصيفا واحدا من جميع القادة العسكريين المصريين الذين التقاهم حين يتحدثون عن الجيش العربي السوري ويصفونه بالجيش الأول، وهو الوصف الذي أطلق على جيش الوحدة عام 1958م واعتقد الكثيرون بأنّه زال مع تفكك الوحدة من عقيدة الجيشين السوري (الأول) والمصري (الثاني).
لم يقرأ أوغلو ولا أعوانه من شركاء الدم السوري حقيقة عقيدة التحالف السوري الإيراني ولا السوري الروسي بعمق ووعي معاصر، فهم لم يفرقوا ما بين مصالح تلك الدول مع سوريا أم في سوريا، لهذا سوّقوا لحفظ المصالح ولم يعيروا الاهتمام للمبادئ الراسخة والتي شكلت تحالف الثالوث السوري الروسي الإيراني والذي بفضله وفعله وصلابته تفتت عليه حلقات المؤامرة حلقة حلقة.
سوريا اليوم على بعد زمن قصير لحصاد النصر العظيم بعد أن تسلّحت قيادتها بصبر عظيم لسبع سنوات عجاف، وبعد أن حطمت الحلقات الكبرى في المؤامرة بصلابة مؤسساتها الحرجة وتكاتفها الملحمي، حيث لم يعد مطروحًا تفتيت سوريا وتقسيمها على أساس عرقي وطائفي كما كان المخطط الشيطاني، ولم يعد مطروحًا تقليص الجيش العربي السوري أو العبث بمؤسسات الدولة الحرجة الأمنية منها والعسكرية والحزبية والمدنية أو مصير الرئيس بشار، فقد أصبحت جميع الحلول المطروحة من مجلس رئاسي أو نظام فيدرالي شبيه بنظام دولة الإمارات العربية المتحدة أو عدد أجهزة الأمن ومهامها ووضع دستور سوري بإشراف أممي وغيرها من الشروط، جميعها لحفظ ماء وجه كبار الخاسرين في الأزمة السورية فقط لا غير، فجميع تلك الشروط مرهونة بحجم ومدى وعي الشعب السوري ومنسوب إدراكه للظرف ودقة المرحلة، بعد أن أبلت المؤسسات السورية الحرجة البلاء الكبير وتحملت جهد المعركة الكونية والتضحيات الجسام للحفاظ على سوريا الواحدة الموحدة ولكل أبناءها، كما لا يمكننا تجاوز المنحة الكبرى التي خرجت بها الدولة السورية من محنتها هذه والتي ستجعل منها دولة محورية فاعلة ومؤثرة للغاية في محيطها الإقليمي ونفوذها الدولي، ومدرسة عسكرية وأمنية عالمية وعالية المهنية والاحترافية في مكافحة الإرهاب وتفكيك المؤامرات وتخطيها بعزم وشجاعة ورويّة وثبات، وهذا بحد ذاته أكبر انتصار للدولة السورية وأعظم انتكاسة للمراهنين على هزيمتها وكسرها. فقد كانت المؤامرة ابتلاءً عظيما للدولة السورية بكافة مؤسساتها ورجالاتها وأطيافها ومكوناتها ومنظوماتها.
---------------
قبل اللقاء: علمنا التاريخ أنّ الحضارة قد تهزمها حضارة أخرى وتنسخها أو تمحوها، وقد تعيقها مدنية ما عن مواصلة مشروعها الحضاري لحين من الدهر، ولكن لا يمكن لمدنية ما أن تهزم حضارة وتحل محلها، فزاد أبناء الحضارات وقوتهم المعنوية تتفوق بكثير على خواء المدنيات وقوتها المادية. لهذا السبب انتصرت سوريا الحضارة على جميع المتآمرين عليها من أبناء المدنيات والمتطفلين على التاريخ، وأجبرت أبناء حضارات على التحالف معها والدفاع عنها.
وبالشكر تدوم النعم