رحمك الله سيدتي

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

بتاريخ 12/8/1992 بينما كنت استمع للمذياع توقف البث العادي فجأة وبثت تلاوة من آيات الذكر الحكيم كان ذلك مؤشراً على فقدان زعيم بلد شقيق أو شخصية هامة في الوطن، لم أجد جواباً لحيرتي وبعد نصف ساعة تلا المذيع القدير علي بن خلفان الجابري آنذاك ووكيل وزارة الإعلام اليوم بياناً صادراً عن ديوان البلاط السلطاني نعى فيه فقدان الوطن للسيدة الجليلة والدة جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم السيدة ميزون بنت أحمد بن علي المعشني عليها رحمة الله.

أوقفت سيارتي واستمعت بأسى لهذا البيان، لم أسيطر على مشاعري مثل الكثيرين في الوطن وأطلقت العنان لدموع لم تستأذنني، في اليوم التالي ذهبنا لحضور صلاة الجنازة وتقديم واجب العزاء في مدينة طاقة بمُحافظة ظفار، الأجواء كانت مشحونة بحزن عميق، والجموع تسير في هدوء يشبه الموت، لا أحد يرفع عينيه عن الأرض، دموع تنهمر بسكينة على خدود الرجال، توجه النَّاس للمسجد الجامع بالولاية حيث سيصلى عليها في مسقط رأسها وسيوارى الجثمان الطاهر الثرى في المقبرة المُجاورة، أمَّ المصلين لصلاة الجنازة رجل مشهود له بالخير والصلاح، كبَّرنا معه التكبيرات الأربع ودعا الناس من خالص قلوبهم بالرحمة والمغفرة لمن غادرت عالمنا إلى عالم الرحمة والمغفرة بإذن الله تعالى.

حمل النعش أناسٌ كُثر يتناوبون على أعمدته الأربعة في زحام شديد وهم يزفونها لمثواها الأخير يتقدَّم الجنازة رجال من الأسرة الحاكمة الكريمة وشيوخ من أهلها وأقاربها، اكتظت الولاية الصغيرة بالنَّاس وتفرق أهلها بين الجموع التي أتت من كل حدب وصوب، لم يتوقعوا يوماً أن يحضر كل هؤلاء لولايتهم الساحلية الهادئة، ربما كان يحلمون بأن تكون المُناسبة سعيدة ولكنها للأسف غير ذلك في ذلك اليوم، كل الوطن حزين لأنَّه فقد أمه الحانية، التي كانت تحتضن كل أبنائه بكرمها ونبلها وحصافة رأيها.

كانت رحمها الله تستدعي الشيوخ والأعيان لبيتها العامر وفي أحيان أخرى تذهب لهم بنفسها في مُدنهم وقراهم وتنصحهم جميعًا بالمحافظة على تراثهم وتقاليدهم العريقة وعدم الانجراف خلف المغريات التي ولَّدها عالم التغيير المتسارع، تحث الناس على الفضيلة، وحب الخير للجميع، أطفأت الكثير من النفوس التي لا زالت مُتقدة وأقنعتهم بحب الوطن والعمل من أجله وتتبع خطى القائد المُلهم الذي نهج سبيل العفو والسلام، نعم كانت تلك السيدة العظيمة تلعب أدواراً رئيسية في الوطن الجديد.

يذكر الأطفال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مكوث موكبها عدة أيام بالقرب من قراهم المُتواضعة، تحب أن تعود لطبيعتها البكر الطاهرة في أرياف ظفار وتلبس اللباس النيلي الجميل وتستدعي النساء والأطفال وتجلس معهم جلسة حب ومودة ورحمة، تحب رحمها الله من يرتبط ببيئته الريفية والبدوية وتحث على ذلك، نظرتها البعيدة للأمور جعلتها تؤمن بأنَّ الأمن والاستقرار يقوم على استدامة الموارد الطبيعية التي يمتهنها الناس كالرعي، والزراعة، وصيد الأسماك، والحرف التقليدية.

كان ذهابها فقداً إليماً لم تطفئه الأيام حيث لا زلنا نذكرها إلى اليوم وإلى الغد وسنعلم أبناءنا في المستقبل عن فضائلها وكيف بنا أن ننسى أم عُمان وسيدتها الجليلة التي أهدت للوطن سيد الرجال وفخر كل من نبت على هذه الأرض، نعم الأيام تمضي ولكن تظل الذكريات الأليمة لهذا الفقدان في جدار النفس محفورة بكل الأعمال العظيمة التي قامت بها سيدتنا الجليلة. نؤمن بقضاء الله وقدره ونبتهل للمولى جلَّ وعلا أن يحسن نزلها وأن يسكنها الفردوس الأعلى مع الأنبياء والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

بعد أن ووري الجسد الطاهر الثرى، توجه الجميع خلفهم لمن العزاء اليوم فعُمان كلها تتقبل العزاء في فقدان رمز من رموز الخير والاستقرار رحمها الله، ذهبت السيدة الجليلة وتركت خلفها ميراث عظيم من المودة والرحمة يحمله كل عُماني ويعض عليه بالنواجذ، ذهبت أم عُمان وتركت لنا امتداداً طبيعياً لها ولطيبها وكرمها ومواقفها النبيلة في أسرتها التي جبل كل أبنائها على حب كل عُماني فما زال ذلك القلب الرحيم ينبض ولم يتوقف ما دام هناك رجل أو سيدة من أسرتها العظيمة في هذا الوجود.

رحمك الله سيدتي الجليلة وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية، وحفظ الله أسرتك الطيبة.

alikafetan@gmail.com