حمد العلوي
إنَّ هذا الوهم الذي يَشْعُر به بعضُ العرب من القوة الفائضة، ليس له أصل على واقع الحال؛ فالقوة تكون وهماً إذا لم تُعزِّزها عواملُ كثيرة؛ وأهمها: العنصر البشري، ثم الاقتصاد الوطني الذي يقوم على أسس راسخة؛ فالتجارة والصناعة والقدرة على الاستثمار في الداخل والخارج، وتوافر مؤسسات دستورية، وعدالة اجتماعية، وسيادة لحكم القانون، وتأسيس الحكم الرشيد للإقليم، بغض النظر عن شكل نظام الحاكم في الدولة، وسلامة واستقرار النظام الداخلي من العبث الخارجي، بحيث يكون قرار تنصيب الحاكم شأناً داخلياً محضاً، ويتم ذلك بإرادة وطنية حرة، لا يُملى أمرها من الخارج؛ فتلك عندئذ تكون تعليمات وليست إرادة، أو بتأثيرات القواعد العسكرية الأجنبية، ثم تختم القوة العسكرية الوطنية العوامل التي تم ذكرها أو التي لم تذكر هنا، وإلَّا فإن كل ذلك يُعد مجرد بهرجة وعبث ووهم خادع، وعائده سلبي وهالك لمن يدَّعي الشعور بالقوة.
إنَّ الدول التي كانت تتكئ على تاريخ عميق، ثم تبدأ بالضمور والاضمحلال، لأنها سارت بنظامها على قوام هش؛ لذلك أصابها خلل وعطب في مفاصله، أما الدول الطارئة وحديثة النشأة، فكأن ولادتها كانت مسخاً بلا ذوق، ولا طعم لها ولا إحساس، فهي تأتي إلى واقع الحال دون خبرة تراكمية، ودون علاقات دولية وطيدة، فبدون ذلك لا تضمن لنفسها البقاء والاستمرار؛ لأن المال وحده لا يكف ليصنع لها كيان معصوم، فربما سهلت الرشاوي المالية بعض السبل إلى حين، ولكنها مسألة وقتية لا تدوم، وكذلك الدول ذات النظم المتهلهلة، لن يشفع لها تأريخها العميق، ما لم تحترم ذاتها قبل كل شيء؛ فبقاؤها يقوم على النظام الرصين المحصَّن داخليًّا، والخالي من المحسوبية والرشاوي، ومن كافة أصناف الفساد، وهناك شواهد كثيرة حول العالم لدواعي القوة والثبات، فتلك الدول التي أصبحت عملاقة اقتصادياً، وينظر إليها العالم اليوم باحترام وتقدير، لم تقم على الدِّين أركانها، وفي نفس الوقت لم تنجح لأنها تحارب الدِّين، كما يفعل بعض العرب اليوم؛ فمنهم من هدم الدُّنيا والقيم والأخلاق باسم الدِّين، وهم أبعدُ الناس عن الدِّين وقيم الإسلام الحنيف، وهناك من يحارب الدِّين باسم الأمن، وليس من علاقة تنافرية بين الدِّين والأمن، بل على العكس فصاحب الدِّين الحقيقي، لا تخش بوائقه بل يفترض فيه أن يكون مأمون الجانب.
المرء ليعجب شديد العجب، عندما يلتقي بأناس لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، بل إنَّهم قد يحاربونه لأنهم لا يعرفون شيئاً عنه، بعدما صُوِّر لهم أن الإسلام يساوي الإرهاب، وهذه الصفة ألصقها فيه من يدَّعُون إنهم مسلمون، فأعطوا نماذج غير صادقة عن الإسلام، وقد قدَّموا هذه النماذج هدية مجانية لليهود، الذين ظلوا يكذبون لتشويه الإسلام، حتى أتوا بالشهادة المهداة إليهم من الدواعش ومرجعياتهم، ولكن عندما تتعامل مع أولئك الذين يسميهم جُهَّالنا بـ"الكفار" تجدهم يعاملونك بقيم الإسلام الحقيقي، فيَصْدقُونك القول، ولا يغمطونك حقك مثقال ذرة، ولا يخونون الأمانة، ولا يكذبون ولا يمكرون، ولا يخادعون الناس، ولا يظلمون ولا يهتكون حقوق البشر، ويعاملون الناس بأخلاق كريمة وإحترام، ثم تجدهم أوفياء في عملهم، ولا يخونون الوظيفة، ولا يحتاجون إلى بصمة الأصبع عند أبواب المكاتب، ليثبتوا الحضور "المنافق" في العمل.
إذن ليس من أمة كأمة العرب تدمر ذاتها بذاتها، وتتآمر على بعضها البعض لصالح عدوها، وقد أعلنت علي عدوها الحب من جانب واحد، وصار العدو التاريخي والديني للأمة العربية والإسلامية، هو من يحدد عدوها من صديقها، فصار عدو العدو عدو لبعض العرب، واشتغل هذا البعض كمحلل ديني وشرعي للعدو، فعلى سبيل المثال: دُمِّرت العراق واحتُلت بمساعدة العرب، وبأموالهم وفتاواهم الشرعية، فقط لأن بعض الحكام لا يحبون صدام، وكذلك لأن إسرائيل لا تحب صدام، وتناسوا أنهم بالأمس هم من حرَّض صدام وأيده بالمال على حرب إيران، ثم التفتوا على ليبيا ودمروها، فانتقلوا إلى سوريا وهلكوا فيها الحرث والنسل، وانتقلوا كذلك إلى اليمن، البلد الفقير المسالم ودمروا اليمن، وقد دمروا قبل ذلك الصومال، وقسموا السودان، وعاثوا فساداً في الجزائر، فأشعلوا فيها حرباً أهلية باسم الدِّين.
أمَّا مصير مصر، فلا يزال مجهولاً، ولكن نعلم إن التآمر إسرائيلي/عربي، وقد نشبوا فتنة بين الفلسطينيين أنفسهم، وحاصروا غزة لأنها لم تنْصع لرغبات إسرائيل، ولأنها ترفض أن تموت قسراً، طالما وُجد من يمد لها يد المساعدة من غيرهم، وقد أمعنوا الفرقة بين اللبنانيين، ولا تزال دسائسهم تثير الريبة في لبنان، وخلقوا عدواً وهمياً من إيران، رغم أننا لم نسمع إن إيران قد هددت أياً من الدول العربية، بل هبت لمساعدة من طلب منها المساعدة، وجعلوا بالرأي السياسي والفتاوي الشرعية من إيران دولة لا تطاق من الشر المضخَّم، وإن من يُذكر إيران بغير ما يصفونها به، فإنه خائن وعدو للأمة العربية وللإسلام، وكأن الكون كله صار يُفكّر كما ينعق إعلامهم الكاذب المأجور.
وقد هدَّد الأمريكي بعض العروش العربية بالدفع أو الزوال، فدفع البعض المقسوم، ولم يدفع البعض كل المطلوب المعلوم، فأنشب "الأشقر" أنياب الفتنة بين بعض العرب، وذهب إلى حال سبيله، ليحل مشاكله الداخلية، وينعش اقتصاد بلاده المتردي؛ وذلك على أمل العود بأساليب أخرى، وأهمها قانون "جاستا" اللَّعين، فهذا القانون الذي يجب أن يطبق بداية على أمريكا والغرب معاً، نظير ما فعلوه في الدول العربية والإسلامية، ولكن شريعة الغاب هي التي تسود في زمن الوهن العظيم، هذا الوهن الذي لم يصب كوريا الشمالية، التي استعارة قول شاعرنا العربي، "فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى"؛ فعرف الأمريكان أنَّ الفارق مُختلف بين الكوريين وعرب هذا الزمان.
إنَّ كلَّ زعم أو تخيل بامتلاك القوة نظير المال منفرداً، أو امتلاك الكثرة العددية من البشر منفردة، أو الاقتصاد المتأرجح المتقلب، فإنه يخدع نفسه لا ير إلاّ جزءاً يسيراً من الحقيقة، فمهما حلم وامتلأ رأسه بأحلام اليقظة، فمصيره إلى نهاية سيئة محتومة، ألا وهي، الإفلاس والذوبان في متاهات الزمن الغادر بمن يغدر به؛ لأن العقيدة الفكرية التي تقوم على مبدأ الوفرة في بعض العناصر، كنظرية التخييم والترحال في البراري؛ فبمجرد بدأ التصحر والجدب بتغير الموسم، فإن الحالة تتغير معه بحسب المصلحة؛ فهكذا حال العرب اليوم، فقد تساوت الدول العريقة العميقة مع الدول الضحلة الحديثة؛ فمثل هذا الأسلوب في الحكم والقيادة يُعد فكرة خاطئة؛ إذ لا يقوم الحكم والقيادة على الرسوخ والاستقرار؛ فلا ثبات بعد ذلك لحال، فإذا الحكم تغلبت عليه حالة الميوعة والتقلب، فودعه على أمل اللقاء به من جديد في قرون قادمة.
إذن؛ نحن عرب اليوم نعيش أحلام اليقظة، بالقول إننا أقوياء لأننا برعنا في تدمير الذات، ومادام كله يصب في مصلحة العدو، فإنَّ هذا العدو مسموع الكمة، ومهاب الجانب، لن يعترض على ما يصبُّ في مصلحته، ويشغل مصانعه -خاصة الحربية منها- فإنَّ الشعور بالقوة الفائضة، هو مجرد أحلام ليست في مكانها الطبيعي، فمهما تعدَّدت قواعدكم العسكرية الخارجية أيها العربان، فإنما هي وكر للدول العظمى، مدفوعة الثمن والإقامة لهم، وفي نفس الوقت لا أحد ينعت الدول المستفيدة منها، بأنها تحتل دولا ضعيفة، فهي في الظاهر لن تثير روسيا والصين بأنها قواعد أمريكية، وإنما هي قواعد لأصدقاؤنا العرب، وهي حلال علينا استخدامها طالما أتت بالذبح على الطريقة الإسلامية، أما نحن العرب فعندما نسمع عن القواعد العربية، والمنتشرة حول الأقاليم المجاورة، لا نفكر في القواعد، بقدر تفكيرنا بالقوة البشرية التي تديرها؟!! مع علمنا بالشح الرهيب في العنصر البشري الوطني، وإذا توفر العنصر البشري لبعض الدول العربية الأخرى، نتساءل أيضاً: من أين لها بالموارد المالية التي ستصرف على تلك القواعد؟!! وشعوب تلك الدول مقهورة بالفقر والعوز، اللَّهم أحلل عقدة حيرتنا في شأن أمتنا العربية، المخذولة ومكسورة الأجنحة كلها، اللَّهم أمين يا رب العالمين.