نفتقد قاماتنا العربية العملاقة.. ناصر والفيصل

عبيدلي العبيدلي 

دون سابق قرار، وبإصرار شديد، شدَّني لقاء جمع مذيع إحدى الفضائيات العربية، مع فتاة مصرية لم تتجاوز نصف العقد الثاني من عمرها، اختارت، عندما سألها المذيع عن أغنية تهديها لمصر، رائعة الثلاثي العربي: الست أم كلثوم (غناء)، وشاعرنا الكبير رامي (نصا)، وقامة التلحين العربي السنباطي (لحنا): "مصر التي في خاطري وفي فمي"، والتي صدحت بها حنجرة "ثومة" في العام 1952. ومن مصر التي في خاطري تنساب الكلمات، من حنجرة تلك الفتاة حتى تقول: "يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها حبي لها"، إلى أن تصل المقطع الذي يلهب المشاعر "عيشوا كراما تحت ظل العلم"، إلى أن تقول "صونوا حماها وانصروا من يحتمي"، "ودافعوا عنها تعش وتسلم"، "يا مصر يا مهد الرخاء يا منزل الروح الأمين"، "أنا على عهد الوفاء في نصرة الحق المبين".

لم يكن القصد المقارنة بين قدرات حنجرة تلك الفتاة وحنجرة "ثومة"، ففي ذلك إجحاف بحق الأولى، وتقزيم لقامة الثانية، بقدر ما أذكت تلك الفتاة ذاكرتي السياسية العربية، ووجدت نفسي أسير شريطا من الذكريات المؤلمة المفرحة تملؤه صور مجموعة من القامات العربية التي نفتقدها اليوم، تماما كما نفتقد صوت أم كلثوم.

تتوسط ذلك الشريط صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الذي ليس هناك ما يؤكد طول قامته، كونه حتى يومنا هذا شخصية جدلية يختلف حولها علماء التاريخ والسياسية، قبل أن يتقاتل بشأنها محبوه والحاقدون عليه.

مشروعات عبدالناصر، مهما اختلفنا في تقييمها كانت عملاقة بقامة السد العالي، وامتداد قناة السويس. هناك من يختلف مع عبد الناصر، فيبرز ما جرف السد العالي من تربة مصر، على سبيل المثال لا الحصر، لكنه ينسى أو يتناسى، أنه من أكبر مصادر توليد الطاقة التي تنعم بها مصر.  وفوق هذا وذاك، لا تقف أهمية سد أسوان عند حدود الاقتصاد، بل تتجاوزها كي تمس تخوم السياسة، فقد كان قرار بناء السد صفعة في وجه قوى الغرب التي كانت تحاول ابتزاز مصر كي تتخلى عن مشروعها القومي.

ثم كانت وقفته التاريخية في وجه حلف السنتو. ليس هناك من ينكر دور ثورة 14 يوليو العراقية في مواجهة الحلف، لكننا هنا نقف أمام قامتين عربيتين هما ناصر والملك فيصل رحمهما الله. وتحضرني هنا كلمات خطبة ألقاها الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز في مواجهة ذلك الحلف قال فيها، في مطلع فبراير 1955، مشددا على ضرورة وقوف الدول العربية في وجه الأحلاف الأجنبية: "إن الضمان الجماعي العربي، يكفي لمواجهة إسرائيل، فإن كان هناك خطر أكبر، فلا يصح أن تنفرد دولة عربية بالرأي في وسائل دفعه (مشيرا حينها إلى العراق، وربما الأردن)، (مضيفا) أن الحكومة السعودية لن تختلف مع الحكومة المصرية، والحكومتان لن تختلفان مع الدول الشقيقة، ما دمنا نعمل كلنا لهدف واحد، هو توحيد كلمة العرب".

سقط حلف السنتو، واندحرت معه العديد من المشروعات الاستعمارية التي كانت تحاك ضد أي نهوض عربي حينها.

كان مشروع المواجهة العربية عملاقا بحجم حلف المعاهدة المركزية (السنتو) على غرار (الناتو). وكانت القامات العربية حينها من أمثال الراحلين: ناصر وفيصل، قادرة على التصدي لمشروعات من ذلك الحجم، حتى عندما تقف وراءها دول عظمى من مستوى بريطانيا والولايات المتحدة.

نعود إلى صفحات التاريخ العربي الناصعة التي سطرتها قامات عربية، فنقف عند معركة تأميم قناة السويس، التي مهما قيل عنها لكنها كانت حينها هي الأخرى صفعة في وجه سيطرة الشركات الاحتكارية العالمية. ونكتفي هنا بالقول إنها، وفي جوهرها، بعيدا عن مدلولاتها الاقتصادية، تعبر عن حق أمة صغيرة بالمعيار الدولي في استعادة حقوقها المسلوبة على أيدي قوى عظمى حينها من أمثال بريطانيا وفرنسا.

لم تكن تلك القامات العربية تستنزف قوى الأمة في معارك ثانوية، ولم تكن تغيب عن ناظريها أهداف الأمة العربية الكبيرة، مثل مواجهة الأحلاف الاستعمارية، والتصدي لمن تسول له نفسه حرفها عن المسار الصحيح في اتجاه توحيد العرب، والنهوض بهم اقتصاديا، دون نسيان، وهم في غمرة تلك المعارك، قضية العرب الأولى: فلسطين.

اليوم، والمواطن العربي يرصد المشهد العربي، لا يملك إلا أن يعود، مرغما، للتاريخ، رغم أنه مطالب، أكثر من أي وقت مضى، بالنظر نحو المستقبل. فمن غير المسموح للأمم التي تريد النهوض أن تكون أسيرة التاريخ كي لا تغرق في أحلام يقظتها.

فمن الخطأ القاتل أن نستمرئ اجترار تاريخنا، بما فيه تلك الصفحات الناصعة التي أضاءت كتبها قامات عربية من أمثال ناصر والفيصل، ففي ذلك بناء حائط سميك يمنعنا من رؤية ما ينتظرنا في المستقبل، وما ينبغي علينا القيام به كي نهيئ أنفسنا له، إن شئنا أن نكون بقامة تسمح لنا بأن نبحث للعرب عن المكانة التي يستحقونها بين شعوب الأمم الأخرى المتقدمة.

والقامات لا تصنعها السيولة النقدية، ولا تبنيها دولارات الفوائض النفطية، بل تساعدها على بناء مشروعاتها العملاقة، وتكاتفها على الوصول لأهدافها النبيلة الكبيرة، شعوب حية تمتلك الإرادة أولا، والاستعداد للتضحية ثانيا، وتحاشي المعارك الثانوية ثالثا، هذا إن شئنا أن نبقى، كما تقول كلمات رامي: "على عهد الوفاء في نصرة الحق المبين".

انتزعني من ذكريات تلك القامات العملاقة، صوت مذيع إحدى الفضائيات العربية، يتحدث عن "انتصارات العرب على بعضهم البعض في عرسال"، وتوصلهم إلى اتفاق مؤقت فيما بينهم حول "وقف الاقتتال في طرابلس ليبيا"، متبوعة بإشارات عن اتفاقات قزمة تتعلق بمحادثات حول مستقبل الموصل.

أكره أسر التاريخ، لكن في مستنقع الواقع العربي المعاصر، لا أملك سوى الانصياع لرغبة جامحة تدعوني لاستذكار إنجازات قامات عربية بمستوى: ناصر والفيصل.

نحن اليوم في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى قامات عربية لا نخرجها من قبورها، بل نبنيها من الحاضر، كي نعيش أحلامها في المستقبل.. قامات عربية نفتقدها، لكننا لا ينبغي أن نكون عاجزين عن توليد من يُماثلها.