الإنسان والتاريخ

 

د. أحمد المعشني

أيُّها التاريخ، هذا قابوس السلام..

أيُّها التاريخ، لا تاريخ بدون إنسان.. ولا إصلاح بدون تشذيب العقول، وتهذيب النفوس، واقتلاع الحجر عن الجادة.

أيُّها التاريخ، هذا قابوس، من الانتفاضة إلى النهضة 1970م.

فكيف بدأت هذه النهضة من قعر الهرم الموشك على الانهيار؟

طبعًا، إنَّه سؤالٌ يبحث عن إجابات مُقنعة تقود لمعرفة بدايات مسيرة النهضة وفلسفتها. وحين نتساءل عن الانتفاضة البيضاء، فإنَّا نجد إجابتها في سجلِّ التاريخ بازغةً من قلعة الحصن بظفار، تُلبِّي مطالب الشعب وإصلاح البلاد من الداخل، فكانت غيثًا ونباتًا وأزهارًا على عمان الأم.

أيُّها التاريخ، أشرقت الانتفاضة لنفض غبار الماضي والتراكمات التي تلبدت في الأذهان من سابق الأزمان. فقد بدَّد القائد هموم الماضي وأحزانه وآلامه بزرع الثقة بينه وبين الشعب. فكانت تلك الانتفاضة ميلاد دولة وسر النهضة التي كان يُخفيها القدر داخل قلعة الحصن بظفار؛ لتقوم بالرعاية وتسيير الخدمات الإنسانية وتسيير المكرمات.

وها هي الهبات، هنا، وهناك تتوالى.

ماذا أقول أيُّها التاريخ؟ وبماذا أُجيب لنصف قرنٍ يفوح ويزكو بالعطاء والنماء؟!

ماذا أقول أيُّها التاريخ للتاريخ، وقد انتخل باب الزمن ليحجز به حثالة التخلف والجمود؟

ماذا أقول أيُّها التاريخ للتاريخ؟

عن رجل شاءت الأقدار أن يُولد في الربيع (الصرب) ويحكم في الخريف. فنال من كل الموسمين شلَّالًا من النصيب يندفع كرًما وجودًا وربيعًا يزكو بنسيم الصبا، فحارت لأجله الألباب واندهشت العقول، فهرعت إليه الأنفس: قابوس.. قابوس.

وانقادتْ له البلاد طَوعًا لمَّا تفرَّست فيه النفوس عبقرية السلام، فسلَّم الشعب أمره لمن يقوده درب السلام. فها هو يحمل الوطن في داخله، والشعب على عاتقه، رغم التراكمات التاريخية والمتناقضات الزمنية التي كانت حوله.  فتكلَّف المشاق وخاض الصعاب بالحزم والعزم. وإن استهلك الوقت الطويل فكره وعقله ونحف جسمه واسمرَّ لونه. فحمل العبء الثقيل وأَلِف بذلك المحن والشدائد. ولكن حقَّا، لولا الشدائد لخملت النفوس وتقاعست، وضعفت الأرواح عن الطموح، وانطفأت جذوة الحماس.

لكنْ أيُّها التاريخ، هي لحظات تبدأ وتؤرَّخ وتُمهِّد للتاريخ قواعدَ وأركانًا، وتترك آثارها على النفس. ذلك هو التاريخ .

أيُّها التاريخ، هذا قابوس السلام..،

أبذلَ الندى، وأصلحَ الأذى، وألجمَ الألسن الحداد، ووهبَ نفسه وماله لوطنه. فانطلقت قوافل الإعانات المجانية والخدمات الإنسانية تُسيَّر وتُوجَّه هنا وهناك من قابوس السلام.

حينها بدأت الإغاثة لمخيمات للاجئين في الرباط، وفاضت اليد السخية وتدفَّقت المساعدات إلى آلاف الأسر في مُخيَّمات الرباط (الشعبيات)، التي جمعت أهلَ المناطق الساخنة من الشرق والغرب والوسط، فاستقطبت شيوخ القبائل وأسر الشهداء واللاجئين والفارِّين من لظى الحرب المستعرة في المناطق الجبلية.

أيُّها  التاريخ، كم كانت مشاهد ومحطات! وكم كانت مواكبَ وجولاتٍ متعدِّدة متنقِّلة من موقعٍ إلى موقع؛ ليتفقَّد فيها الأحوال بنظراتٍ صادقةٍ. فكانتْ جولات حافلة بالتضحيات، ممزوجة بالتعب والتحديات، تولَّدت على أثرها مدن ومراكز.

وبهذا التاريخ تحديدًا، بدأ التحول التاريخي في إنشاء المراكز لتحضير أبناء المجتمع الرعوي وتمدينهم. وتوطين نازحي الأرياف في عِدَّة أحياء سكنية في المدينة، أُطلق عليها في حينها المسمَّيات الآتية: (منطقة القرض، منطقة الحصيلة، منطقة القرا، صلالة الجديدة، منطقة المعتزة، منطقة الغربية...إلخ).

أيُّها التاريخ، هذا قابوس السلام في دار الأيتام، أنشأ لهم مدرسةً متكاملةً، ورعايةً، وكساءً، وسكنً، وطعامًا. وكان يفتقد أحوالهم أسبوعيًّا في تلك المدرسة. وكان على تلك المدرسة ناظرٌ قائمٌ عليها، فأنبتها نباتًا حسنًا، وجيلًا واقدًا يقظًا، متوقِّدًا بالمواهب والذكاء والحماس.

تعليق عبر الفيس بوك