ارتباك الأمة

عبيدلي العبيدلي

ارتباكٌ في اللغة -وكما ورد في القواميس العربية- جذرها ربك، ومصدر أربك، "لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إِرْبَاكَ تَفْكِيرِهِ" إِيقَاعَهُ في الحَيْرَةِ والاضْطِرَابِ. ارتبك في الأمر: علق فيه. ارتبك الحيوان في المصيدة: اضطرب فيها. ارتبك الأمر: اختلط. ارتبك في الوحل: وقع فيه. ارتبك في كلامه: تتعتع فيه ولم يُفصح. إرباك رأيه: اختلط، اضطرب. إرباك عن الأمر: وقف، تراجع".

وفي اختصار هي تعبير عن عدم التوازن، وفقدان القدرة على السلوك السوي المتعارف عليه. هذا على مستوى الفرد. لكن الحالة لا تختلف عندما ينتقل الأمر من التصرف الفردي المستقل إلى سلوك الأمة الجماعي، فكما يصاب الأفراد بالارتباك، يمكن أن تعاني الأمم من الارتباك، عندما يسيطر على سياساتها، بدلا من سلوك أفرادها، الاضطراب، وعدم القدرة على التمييز بين ما هو غث وسمين، وفقدان الاستطاعة على الإفصاح عما تريده على نحو سليم وفي الوقت الصحيح.

وكما هي الحال عند الأفراد كذلك تقف وراء ارتباك الأمم مجموعة من الأسباب تتمظهر في رزمة من الممارسات التي يمكن تشخيصها بالوقوف على مجموعة من الأسباب، وتلمسها في عدد من المزاولات.

فعلى مستوى الأسباب، يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1- انقسام المجتمع أفقيًّا، وتشظيه بدلا من تماسكه وتراصه، بسبب الانتماءات العرقية، أو الجذور الطائفية أو الأصول القبلية. فعندها تتشتت جهود الأمة وتتمزق مواردها، وتتحول من جزيرة واحدة إلى أرخبيل من الجزر المتناثرة التي لا تعرف بعضها البعض. بل ربما يزداد الأمر سوءًا عندما تحترب تلك الجزيئات، وتنتقل علاقاتها من التكامل الطبيعي إلى التنافر الاجتماعي الشاذ. فتتمزق الأمة، وتضعف مواردها، فيسود سلوكها الارتباك، وتعاني سياساتها منه.

2- انفصال المجتمع عموديا بين مكوناته من جهة، وإدارات سلطته القائمة من جهة ثانية، يبلغ درجة من التنافر الحاد الذي يحدث شرخا عموديا بين السلطة والمواطن؛ الأمر الذي يقود إلى فقدان أي من مفردات لغة مشتركة بينهما. فيجرد المواطن من قدراته على البذل والعطاء، ومن ثم الابداع من جهة، ويحجب ذلك عن السلطة إمكانات الحضور المباشر وغير المباشر من أجل التخطيط، والتطوير، من جهة ثانية. ويصل التضاد إلى درجة الشلل الذي يربك خطوات الأمة ويدمرها.

3- استحضار الماضي ونسيان الحاضر، وعدم القدرة على سبر أغوار المستقبل. حينها تتحنط الأمة، وتنشل قدراتها الذاتية، وتتلاشى إمكاناتها الموضوعية. ويتحول المجتمع من خلية عاملة متأججة بالحيوية، إلى جزيء خامل غير قابل للنمو، ومتهيِّئ للضمور، إن لم يكن بالمعنى المطلق للانكفاء، فبالمقياس النسبي عند مقارنته مع المجتمعات الأخرى، بمن فيها تلك القريبة منه على المستويين الجغرافي والحضاري. عندها تعاني خطوات الأمة من ارتباك قد يتحول من مؤقت إلى دائم.

4- غياب الثقة بين مكونات المجتمع، وهو أمر يختلف عن الصراعات الطائفية والاحتراب القبلي، والتناحر العرقي. فغياب الثقة بين تلك المكونات، ربما يكون حالة مستترة لا تطفو على السطح، بل قد يحرص كل مكون منها على تغليفه بمجموعة من السلوكيات المموهة التي تحجب عن الآخرين رؤيته او تلمسه. لكنه رغم ذلك يشعر الجميع أن كل مكون من مكونات المجتمع يقف متأهبا للانقضاض على المكون الآخر، ومستعدا له فيما لو سولت له نفسه بمهاجمته.  في هذه الحالة تعاني الأمة من حالة شديدة من الارتباك الذي يفقدها القدرة على شحذ الهمم وتكتيل الصفوف من أجل تحقيق اهداف معينة، وتنفيذ استراتيجية محددة.

تُفرز تلك الأسباب مجموعة من الظواهر، التي تعبر عن ارتباك الأمم، وتلعثمها، إن جاز القول، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أ- تبذير الموارد، وهدر الجهود، بحرفها عن مسارها الصحيح، وتوجيهها نحو أهداف أخرى لا تخدم أي من مكونات المجتمع، سلطة كانت تلك المكونات أم مواطنين. والتبذير والتشتيت لا يقتصر على الموارد الطبيعية والثروات المادية، فحسب، بل يتجاوزها وبسرعة ضوئية، كي يصل، وهذا هو الأسوأ، إلى الموارد البشرية، التي تجد نفسها مرغمة، إما إلى الانكفاء نحو الداخل، لتهميش الذات، وتجريدها من قدراتها، أو الهرب إلى الخارج، ونسيان واجباتها الوطنية والتزاماتها المجتمعية. وكل هذه الحالات تكشف ارتباك الأمة المعينة.

ب- البحث عن أعداء وهميين، والدخول في صراعات، تتحول في حالات معينة إلى صدامات عسكرية تكاد أن تكون عبثية، لا يجمعها هدف، ولا تبررها وسيلة. فتنتقل الأمة حينها من معركة وهمية إلى أخرى، ولا تنتهي واحدة، حتى تبدأ غيرها.  كل ذلك والعدو الحقيقي ينعم بالأمن والاستقرار، مسمرا عيناه على سير الأمور في تلك الأمة، متحينا الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، إما لسلب جزء منه، او لإرغامها على القبول بشروط مهينة مجحفة عليها، أو لفرض حصار على سياساتها، لعزلها وخنقها، مما يرغمها على الارتباك والتعثر.

ج- تهشيم إنجازاتها التي قامت بها، والتفريط في مكاسبها التي حققتها، وعلى المستويات كافة، سياسية كانت تلك الإنجازات، أم اقتصادية، بل وحتى العسكرية. فنجد تلك الأمة، وهي في أوج تقدمها تتراجع عما كانت تدعو إليه، او تطعن في صحة ما حققته. ويتحول كل ذلك إلى ما يشبه حالة من النكوص نحو الخلف، يصاحبها ارتباك مثل ذلك الذي يعاشر انسحاب الجيوش المنهزمة غير المنظم، الذي يصل إلى درجة الفرار، والهروب المتفرد، بدلا من الانسحاب الجماعي المنظم القادر على إعادة ترتيب الصفوف من أجل مواجهة العدو.

وتبقى قضية في غاية الأهمية، وهي أنَّ التخلص من الارتباك، لا يمكن أن يتم بمعالجة المظاهر، ففي ذلك وصف دواء لعلاج الأعراض، بدلا من التصدي للأسباب واستئصال جذورها، حينها يمكن علاج المرض، وإنقاذ المريض.

وعليه، فخروج الأمة من حالة الارتباك التي نتحدث عنها يكمُن في مُعالجة الأسباب قبل الدخول في متاهات التصدي للأعراض. هذا إن شاءت تلك الأمة التخلص من حالة الارتباك التي تمسك بتلابيبها، وتحول دون انتقالها إلى مصاف الأمم التي تفخر بنفسها في الحاضر ولا تتفاخر بإنجازات الماضي.