يوم خالد في ذاكرة وطن

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

من قلب مدينة صلالة ظهر ذلك الشاب كث اللحية دقيق الملامح يمشي بكل ثبات وهو خارج من قصر الحصن العامر، كانت هناك جموع من الناس التي انهكها الزمن تنتظر القادم من قصر الجنوب، المشاعر جياشة ولكن الخوف لا زال يشغل حيزًا كبيرًا من قلوبهم، ومع ذلك فهم يتطلعون لخطوات السلطان قابوس بن سعيد سليل السلاطين العظماء الذين حكموا مملكة زاحمت نفوذ بريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، وطردت النفوذ البرتغالي إلى غير رجعة، ووضعت حدًا لأطماع الكثيرين في أرض عمان، فهذا البلد ليس له عيد استقلال لأنّه باختصار ظلّ حرا منذ كان ولم يخضع لنفوذ الآخرين فحق لنا أن نفتخر بوطن حريته سرمدية.

المشهد خارج قصر الحصن العامر صبيحة الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 كان مختلفاً، رجال يمشون برفقة السلطان الشاب، يبتسم للجموع، شيوخ قادمون من حارات المدينة القديمة، نساء، أطفال، اصطف الجميع على جنبات الشارع الترابي الذي كان شاهدًا لسنوات طويلة على مرور الركبان على إبلهم، والراجلون القادمون لجلب مؤنتهم من السوق اليتيم، كل شيء في ذلك اليوم كان غير لكن الجميع شاهد لمعة حب ووفاء وإخلاص في عين السلطان الجديد فأزاحت تلك النظرة ركامات الخوف الجاثمة على صدورهم.

الجبال تستعر فيها الحرب، والمدينة يلفها سور لا يرحم شيد لقطع سبل الحياة عن الثائرين على الظلم والطامحون لغد أفضل، وكان عقابا جماعيا لمن هو في الخارج، فتجدهم قبل هذا اليوم يتوسلون لدى حراس الكوت لتمرير بضعة حبيبات من السكر أو حتى الشاي، وهناك أحاديث عن حيل البسطاء لتهريب السكر فمنهم من يمزجه بالماء وآخرون يضعونه في المناطق المحرمة من أجسادهم لكن يد الحارس أو الحارسة الغليظة تمتد لكل الأنحاء ويذهب ذلك العجوز باكيا على ما تبقى من كرامته أولاً ولفقدانه تلك الكمية الزهيدة التي كانت ستفرح قلوبا كثيرة في الريف أو البادية.

وبالرغم من كل الخوف الذي يسكنهم هتفوا جميعاً يحيا السلطان، ويموت الخونة الذين تذكر الروايات أنّهم أُشبعوا ضربا في ذلك النهار، وقف جلالته -حفظه الله- على منصّة صغيرة وخلفه رجل مخلص عرفته ظفار وافتقدته في وقت مبكر هو الشيخ بريك بن حمود - رحمه الله - ولا شك أنّ هذا الرجل هو واحد من أبرز قادة التغيير في عمان الحديثة، الذين يجب تذكّرهم في مثل هذا اليوم، كان ثباته على الحق وإخلاصه للسلطان وحبه لكل حبة من تراب الوطن هو الوقود الذي جعله كشعلة متقدة في يد السلطان تنير الظلام الدامس، ويدًا رحيمة تزيح الظلم وتمحو الطغيان فرحم الله الشيخ بريك بن حمود الغافري والي ظفار الأول في العهد الجديد.

كل ما يحدث في ذلك اليوم كان مشهداً مصغراً لما سوف يجري في كل ربوع الوطن، أمر جلالة السلطان باقتلاع السور الذي تكسّرت على حواجزه قلوب الناس الجوعى والمحرومين، كان ذلك قراراً شجاعاً انحاز بموجبه السلطان للناس وراهن عليهم بالرغم مما يحدث في الخارج من حرب يقودها ثوار من بسطاء الناس لا هدف لهم إلا العيش الكريم قبل أن يتم أدلجتها لخدمة غايات غير حميدة فسلب الحلم الجميل وصار قناعا كئيبا ومخيفاً حصد الأرواح وأهلك ما تبقى من المال والنسل ودمر القيم والأخلاق فأزاح السلطان - حفظه الله - ذلك القناع الخبيث؛ لعلمه بمبتغى الناس ونصرة لأحلامهم فمدّ يده لهم وأعاد الكرامة لمقاصدهم النبيلة فالتفوا حوله وأصبحوا جنودًا مخلصين لجلالته بعد أن كانوا بالأمس القريب يتمنطقون بالسلاح الشرقي ويحاربون على الضفة الأخرى، إنّها حكمة جلالة السلطان التي احتار فيها كل فقهاء السياسة في العالم حتى اليوم.

فعفا السلطان عن الجميع وقال قولته المشهورة (عفا الله عمّا سلف) راهن حفظه الله على شعبه الشريد والمنهك والفقير، وجنّد كل حياته لانتشالهم مما ألمّ بهم من ظلم وجهل ومرض، فانضم الجميع لقطار السلطان وتركوا كل الوجهات الأخرى، أحب شعبه فأحبوه، احترم أحلامهم وطموحاتهم، صبر عليهم ولا زال على نفس روحه الطاهرة المخلصة الرحيمة بهم حتى بعد مرور نصف قرن، وهو في أشد ظروف مرضه خاطبهم من أوربا خطابا  أبوياً حانياً يعتذر لهم عن غيابه عنهم في ذلك العيد، فالوطن لا يعرف العيد إلا إذا ظهر السلطان ببدلته العسكرية وحوله حماة الوطن والساهرون على أمنه واستقراره..

حفظ الله عمان - وأدام على السلطان نعمة الصحة والعافية - ونقف إجلالاً وإكباراً لكافة الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تبسط رداء العافية على الوطن بتوفيق من الله جلّت قدرته.. وكل عام وأنتم بخير.

 

alikafetan@gmail.com