نهضة يوليو والانطلاق المتوازن

 

عبدالله العليان

عِنْدَما انطلقتْ النهضة العُمانية بقيادة جلالة السلطان قابوس -حفظه الله- في الثالث والعشرين من يوليو 1970، رسمتْ الملامح الأساسية لهذا التحرُّك نحو المستقبل بظلال الحاضر ورؤية المستقبل، ووازنتْ بَيْن ما يجب أخذه وبين ما يجب تركه، بين الأخذ بتكنولوجيا العصر والعناية برصيد التراث، والتفاعل مع الحضارات الإنسانية وفق المصالح المشتركة وبين الاستمساك بالخصوصية والهوية الذاتية، وهذا ما قاله جلالته المفدى في إحدى المناسبات: "لقد جعل الله بين أفراد بني البشر من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ما يُقوِّي صلاتهم، ويدعم علاقاتهم، لتتسم حياتهم بخصائص المدنية المحكومة بنظم الاجتماع، ما ذلك إلا مظهر من مظاهر الاستخلاف، واعلموا أنَّ الحضارات لا تقوم إلا إذا توفرت لها المقومات الأساسية، وعلى رأسها حب العمل بين الأمة الواحدة، فما أحرانا نحن بني الإنسان بالعمل وقرآننا الكريم يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى).. صدق الله العظيم". وقد راعى الفكر النهضوي العُماني الذي يقوده جلالة السلطان قابوس بن سعيد هذه الفجوة القائمة في الحضارة المعاصرة، وتلك القواطع الغائبة في عقلية النهوض الذي لم يوازن بين القيم والمادة، مع انطلاقة هذه الحضارة الإنسانية فكان يلازمها الاضطراب والتوجس والنظرة الحائرة للمستقبل، وغلّبت على الجانب النفعي المادي على مضامين القيم الروحية والتراث الذي يعتبر امتدادا للحاضر، ونتيجة لذلك فقد التوازن المطلوب. والتقليد الأعمى الذي أشار إليه جلالته في حديثه إلى أبنائه الطلاب في المنتدى الصيفي بصلاله 1976، باعتباره أحد المساوئ للكثير من المجتمعات في عالم اليوم، والتقليد الأعمى غير الاقتباس والانتقاء الإيجابي الصالح، غير الركض وراء التقليعات والموضات للمسايرة والمظهرية، تحت دعاوي "العصرية"...إلخ.

وجلالته بفكره الثاقب وبصيرته النيِّرة أَدْرَك منذ البداية أنَّ أية "عصرنة" لن تتم وفق ما هو منشود ما لم تتأسس على مبدأ الاعتزاز بالميراث الفكري الحضاري للأجداد، وما لم يسر العمل في العصرنة جنباً إلى جنب مع المحافظة على التراث وإبرازه إلى حيز الوجود كمعين متدفق يغذي الحاضر ويقدم له الرؤى ويزوده بالخبرة الكافية: "لقد كانت بلادنا عُمان فيما مَضَى -وما زالت- تعتزُّ بتقاليدها وتاريخها، ومع أنَّ المجتمع العماني يعيش اليوم متغيرات عصره، إلا أنه لم يفرط في هويته وتراثه، بل استطاع أنْ يَجْمع بين الطيب من تقاليده، والطيب من واقع حاضره، والحمد لله". مضيفاً جلالته في فقرة أخرى: "بل إننا نؤكد أنَّ ديننا في جوهره يدعو إلى ذلك دون المساس بالأساسيات العقيدية، وهو يدعو إلى مواكبة مستجدات كل عصر من الاجتهاد كلما توفرت شروطه".

هذه النظرة المعطاءة المتوازنة التي راعتها النهضة في انطلاقتها إلى الإنجاز الكبير بين الحاضر وتحدياته الحضارية والماضي الزاهر بتراثه وقيم المجتمع وعاداته وتقاليده العريقة، كلها كانت السند الأقوى في هذا العطاء والإنجاز الذي عم أرجاء عمان، وكان بحق إنجازا باهراً شهد له كل المتابعين لمسيرة النهضة العمانية والتوازن المحسوب -كما قلنا- والذي رافق تنميتها وهو ما عبر عنه جلالته: "وإذ نحمد الله على كلِّ ما أنعم به علينا فيما أنجزناه من مراحل أساسية للنهضة الشاملة، فإننا نعتزم تطوير وتحديث إستراتيجية الدولة في كل أوجه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي كافة المجالات التي تهم المجتمع وتخدم الصالح العام لبلادنا وشعبنا؛ وذلك وفقاً لرؤية شاملة ومتكاملة نسعى من خلالها لتحديد معالم الطريق إلى المستقبل، ومواصلة التقدم بخطوات مدروسة، وقد أعطينا توجيهاتنا للحكومة للبدء في دراسة هذه الإستراتيجية ووضع إطارها العام لتكون الأساس المعتمد لبرامج وخطط بعيدة المدى، تهدف إلى تطوير مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي للبلاد؛ بما يحقق طموحات هذا الجيل ويأخذ بعين الاعتبار مستقبل الأجيال القادمة"؛ فالذي تحقَّق من مُنجزات كان شاهداً على التوجُّه السليم للسياسات التنموية في البلاد بفضل التوجُّه نحو التقدُّم الحضاري والسير لبناء دولة عصرية "تحظى باحترام الدول المجاورة". وتلعب عمان اليوم دوراً حيوياً في الشؤون الإقليمية والدولية أكبر مما تُوْحِي به مساحتها، ويمتزج عُمرانها العصري بجمالها الجبلي الطبيعي ويكمله، كما استعاد المواطنون كرامتهم ودماثتهم وأريحيتهم التي جبلوا عليها من خلال انتقالهم إلى بيئة العالم المتحضر والجمع بين نكهة الشرق والغرب، وقد تم بنجاح توفير الدوافع لمشاركة المواطنين من كل الأعمار في كل جوانب الحياة في البلاد .

واليوم.. إنَّ الازدهار الذي يعيشونه وفرص الصحة والتعليم وأسباب العيش المتاحة لهم قد تجاوزت -كما هي الحال في الدول الأخرى- حدودَ ما توقَّعه آباؤهم الأولون، فقد تم إنشاء بنية تحتية ممتازة وبناء قاعدة عامة للمؤسسات.

وإذا كانت مسيرة النهضة قد أعادتْ لعُمان وجهها المشرق وتاريخها الحضاري، ودورها الرائد في محيطها الإقليمي والعربي والدولي، فإنَّ هذا الإنجاز ما كان أن يتحقق لولا السياسة الحكيمة والمستنيرة التي يقودها جلالة السلطان قابوس المفدى، والالتفاف الشعبي حول قيادته لبناء عمان حرة كريمة أبيَّة، تتفاعل مع العصر وتتجاوب معه، وفي الوقت ذاته، تحفظ قيمها وتراثها، وتستخلص منه العِبَر والتجارب النيرة. إنَّ التحدي الجغرافي الذي واجههه العُمانيون عبر تاريخهم المديد يعدُّ بمثابة الروح الدافعة للنشاط والإبداع والابتكار، وكان العامل في تكوين شخصيتهم، من حيث الجدية والتحمل والمثابرة والصبر على الشدائد، وأنَّ الحياة الهانئة والاستقرار الحضاري والرقي لا يتأتَّى إلا من خلال هذه المعطيات الدافعة ومنطلقاتها الأساسية.. إنَّها روح التحدي والمثابرة للوصول إلى الهدف المنشود.